زمـن الطـيّبيـن.. الطفرة أفقدتنا البساطة وغيّرت النفوس!

في كل مجلس في زمننا الحاضر وعند التطرق إلى الحديث عن جيل مضى نجد أن الكل وخصوصاً من عايش نهايات تلك الفترة من الزمن يتحسر على ما فات من تلك الأيام الجميلة، بل ويحدوه الحنين إلى ذلك، مما يجعلنا نتساءل وبشدة ما الذي تغير..؟ سؤال عندما تطرحه على الكثيرين تجد الإجابة متشعبة، فمنهم من يحن إلى جيل البساطة الذي تميزه حلاوة اللقاء الممزوجة بصفاء القلوب بل والمحبة والعطاء، جيلٌ يسأل الجار عن جاره ويتفقد الأخ أخاه، جيلٌ لم تغيره سنين الطفرة المتتالية بما حملته من تباعد في النفوس بعد أن بات الهم هو جمع (الفلوس) وتقديم محبة النفس والأنانية على أقرب قريب أو صديق.. حتى لم يعد الحياة لها طعم بعد الابتعاد عن البساطة وعفوية المشاعر والانصراف إلى المباهاة وتخليد حب الذات، فقدنا طعم الاجتماع مع الأهل، فقد كانت الجارة تدخل على جارتها وهي تطبخ والأخ يدخل على أخته وهم يتناولون الغداء أو العشاء ويشاركهم دون تكلف أو تبرم، وكذلك العم أو الخال يدخل على بيت أخيه أو أخته في وقت الضحى أو بعد العصر ليشاركهم شرب القهوة والشاي بلا موعد محدد، فقدنا نغمة جرس البيت التي تملأ أرجاءه معلنة قدوم ضيف دون موعد سابق من قريب أو صديق تقابلها عبارات الترحيب والبشر يعلوا المحيا من الجميع صغيرهم وكبيرهم، بينما يرى جيل اليوم هذه الزيارة التي لم تبرمج ويعد لها موعد سابق بأيام وربما أسابيع عيب وقلة ذوق، وقد يُتهم الزائر بالتطفل أو بالاستهانة بأهل الدار، وقد يسمع بعض كلمات تحرجه وإن كان سليم المقصد، وهذه الكلمات كفيلة بردعه من تكرار هذه الزيارة ابد الدهر، وغيرها من المستجدات التي تجعل المرء عندما يخلو بنفسه متفكراً في أحوال مجتمعنا اليوم يجد أن في كل إجابة مما سبق سبباً لما حصل ويحصل للمجتمع في وقتنا الراهن، مما يستلزم الوقوف بقوة وحزم في مواجهة ما طرأ من تغييرات وتحويلها لايجابيات بدلاً من أن تكون سلبيات مسكوت عنها بداعي أن كل المجتمع يريد ذلك أو أن يقنع المرء نفسه بمقولة (هل أستطيع أن أسبح بعكس التيار) إذا عدلت من سلوكي أنا وعائلتي فقط، مما يجعل المسألة تحتاج إلى وقفة من الجميع وخصوصاً عبر وسائل الإعلام المختلفة لتذويب الفوارق بين جيل الأمس وجيل اليوم وذلك بالرجوع إلى بساطة جيل الأمس والاستفادة مما حملته لنا المتغيرات التي جعلت من حياتنا رفاهية بلا طعم ولا روح.

التحوّل المعيشي

المتتبع لأحوال المجتمع منذ سنين الطفرة الأولى أي منذ ما يقارب النصف قرن يجد أن المجتمع قد واجه العديد من التحولات ومن أبرزها ارتفاع المستوى المعيشي والذي تبعه ثورة في الخدمات من كهرباء واتصالات وشبكات مياه صاحبها إطلاق الصندوق العقاري لعروضه في منح القروض لبناء المساكن الحديثة فاستبدل الناس البيوت الطينية بمبان حديثة وانتشرت الأحياء بخدماتها من حدائق ومحلات تجارية، وواصلت البلاد تطورها وازدهارها في جميع المجلات التعليمية والصحية والبلدية والترفيهية، فانتشرت الأسواق والمطاعم الفخمة وبقية المحلات التجارية التي تقدم خدماتها وتلبي احتياجات المجتمع على مختلف أنواعها، ونتيجة لهذا التطور السريع والتحول والانفتاح على العالم الخارجي والتأثر به فقد طغت الحياة المدنية على أفراد المجتمع وزاد الأمر تعقيداً بانتشار التقنية الحديثة وثورة الاتصالات الحديثة التي قربت المسافات بين سكان العالم أجمع، وبدلاً من أن ينعم المجتمع براحة البال في ظل هذا التطور السريع والعيش المرفه الرغيد بات يدفع ضريبة هذا التقدم والتطور في عصر طغت فيه الماديات والشكليات على كل شيء فاختلت القيم وتغيرت العادات إلى الأسوياء فيما يظن الكثيرون وصار المجتمع يعاني من جفاف عاطفي وتباعد وقطيعة رغم توفر وسائل الاتصال الفائقة السرعة وبات الكل يبحث عن ذاته في خضم ذلك، ومن الأدلة الدامغة على ذلك النظر بعمق في المظاهر التي تعودنا عليها في عصرنا الحاضر كرؤية المجالس الفسيحة والتي تتسع للعشرات مقارنة بالمجالس القديمة الصغيرة والتي كانت في زمننا الماضي القريب مبنية من اللبن والطين ومن ثم تطورت إلى مجالس مسلحة كان أكبرها لا يتجاوز العشرين متراً، ولكن المجالس القديمة كانت عامرة بالزوار والضيوف بشكل دوري، أما مجالس اليوم التي في الفلل الكبيرة ذات المساحات الواسعة بأطقم الكنب الكلاسيكية المتعددة الألوان والستائر الفخمة والطاولات الفاخرة فقد بدت اليوم خاوية ويعلوها الغبار وتشتكي من قلة المرتادين الذين قد تمر الشهور بل العام بأكمله دون أن يدخلها أحد، وأصبح معظم لقاءات الناس واجتماعاتهم في الاستراحات أو المطاعم بحجة أن المجلس في البيت لا يتسع لجميع الحضور كما أن إقامة الوليمة في الاستراحات ذات الإيجار اليومي فيها توفير للوقت والجهد فلا تنشغل ربة البيت في تنظيف البيت بعد مغادرة الضيوف.

العادات الجميلة

اختلفت العديد من العادات والتقاليد الجميلة فما كان بالأمس مصدر محبة وألفة واجتماع بات مصدر إزعاج وافتراق، فأصبح الجار قد لا يعرف جاره الملاصق له وقد تمر السنين ولا يدخل أحدهما منزل الآخر، وقد تمر الأيام والشهور ولا يلتقيان حيث أن كل منهما يدخل بسيارته إلى بيته بالبوابة الكهربائية كما أن زيارات النساء من الجارات قلت وضعفت، ومن الأدلة على ذلك أنه عندما ترزق المرأة بمولود جديد فإن الزوار فيما مضى في ذلك الزمن يملؤون البيت ليل نهار وتمتد الزيارة طوال فترة النفاس بلا مواعيد أو سابق إنذار بل أن الباب يظل مفتوحاً على الدوام للزوار من الأهل والأقارب والجيران، وأما اليوم فقد باتت أم المولود إذا كانت من طبقة الموسرين فان الزيارة تكون فقط في المستشفى الخاص الذي ولدت فيه حيث تخصص الخمسة أيام الأول لاستقبال الزوار من الأهل والأصدقاء في المستشفى الخاص الذي يتم فيه استئجار جناح كبير يتسع لاستقبال أكبر عدد من الزوار ويتم الاستعانة بمن يصب القهوة والشاي من محلات تجهيز الحفلات من (الصبابات) من النساء، وبعد انتهاء الأيام تنتقل الأم ومولودها إلى البيت ولا تستقبل أي زائرة بعد ذلك، وأما ان كانت أم المولود من الطبقة المتوسطة ومن عامة الناس التي تلد في المستشفيات الحكومية فانها هي أيضاً تحدد يومان فقط في فترة النفاس للزيارة ويتم إرسال هذا الموعد عبر أجهزة التواصل الاجتماعي ليعرف الجميع ذلك ويعذر أهل المولود في عدم استقبال من لم يرعو لهذا الموعد المحدد، ومن القصص الواقعية المحزنة هو قيام إحدى كبيرات السن بزيارة إحدى قريباتها الشابة التي وضعت مولوداً جديداً بعد أن أخذت ما يخص هذه المناسبة من حلويات وقهوة وشاي فذهبت إلى منزل هذه المرأة في أيام نفاسها وعندما طرقت الباب فتحت لها الخادمة وأدخلتها في ملحق البيت الخارجي فجلست هذه العجوز تنتظر دخول أم المولود أو أن تدعى إلى داخل البيت لترى المولود وأمه ولكنها كانت قد أتت في يوم غير محدد للزيارة وبعد مضي قرابة الساعة جاءت إحدى أخوات أم المولود ورحبت للمرأة واعتذرت لها بأن أختها غير موجودة فقد ذهبت مع مولودها في موعد وأن والدتها متعبة ونائمة لا تستطيع مقابلتها، فما كان منها إلا المغادرة سريعاً ولما ذهبت إلى بيتها وجدت بناتها في انتظارها ولما دخلت عليهن أجهشت بالبكاء وأخبرتهن بما حصل، فقلن لها بناتها إن قريبتهن أم المولود قد حددت يوماً للزيارة ولذلك لم تخرج هي ولا أمها، فأقسمت هذه العجوز بأن لا تذهب إليها مجدداً من شدة غضبها من هذا الموقف الذي تراه دخيلا على العادات والتقاليد التي عرفتها في وقتها الماضي القريب.

السياحة

ومن المظاهر المنتشرة في مجتمع اليوم ظاهرة السفر في كل إجازة وربما إلى خارج البلاد مما يكبد رب الأسرة الكثير من المصاريف التي هو بغنى عنها، فصار السفر إلى خارج المملكة خصوصاً موضة جديدة بين جيل اليوم فصار هناك سباق محموم فالكل يسعى إلى زيارة بلدان جديدة حتى لو دفع من أجل ذلك الغالي والرخيص فغرقت معظم الأسر في الديون الاستهلاكية وصارت تدفع ثمن ذلك غالياً في سبيل تسديد ما تراكم من ديون مما أثر على حياة تلك الأسر وجعلها تقع في مستنقع الديون الذي تعيش معه أياماً صعبة وأزمات متعددة طوال سنين وذلك من أجل إشباع رغبة التباهي والتقليد الأعمى والمظاهر الكذابة، بينما كان جيل الأمس قانعاً بعيشه ومتخذاً من المثل القائل (مد رجليك على قد لحافك) نبراساً له في الحياة، فتراه يصرف على قدر حاجته بل ويدّخر مما يكسب تماشياً مع مقولة (احفظ قرشك الأبيض ليومك الأسود) فعاش مستور الحال وقضى إجازاته متنقلاً في الزيارات العائلية وبين المصايف المحلية الجميلة.

تغيّرنا

زادت الأمراض النفسية وتفشت العزلة بين كثير من الناس حتى أصبحوا حاضرين بأجسادهم غائبين بوعيهم وإدراكهم فالمشاعر شبه ميتة ولعل أبرز دليل على ذلك هو اللقاءات العائلة السنوية التي يظللها جو من الكآبة فالكل ينتظر مرور الوقت ليغادر بل إن البعض بالفعل يغادر عند نهاية الوجبة الرئيسية كما هو حال الأفراح التي كان لها في الماضي نصيب من اسمها ولكن جيل اليوم جعلها كالأتراح حيث يبدي أحدهم فرحته بعدم دعوته سواء كان عن طريق النسيان أو الااتكالية في الدعوة فيحس بأنه قد زال حمل كبير عن عاتقه بعدم تورطه بتلبية الدعوة فيما لو قدمت إليه، بينما البعض الآخر يقوم بتلبية الدعوة وكأنه مكره فتراه يحضر إلى الزواج وهو على مضض فيسلم على العريس وأقربائه وربما يلتقط بعض الصور التذكارية بابتسامة مصطنعة كإثبات حضور ومن ثم يغادر، بينما يتكبد العريس الخسائر في تجهيز مأدبة عشاء لا يحضرها سوى نصف المدعوين بينما يكون مصير ما بقي من الأكل هو فائض الولائم ليتم توزيعها على الأسر المحتاجة، وبعد التطور السريع في التقنية وانتشار القنوات الفضائية وظهور أجهزة التواصل الاجتماع اتسعت الهوه وقتلت هذه الاجهزة متعة التقارب بين الناس، اذ بات الجميع صغاراً وكباراً مشغولون في تقليب أجهزتهم في متابعة كل جديد من محادثات وأخبار مما جعلنا نفتقد الدفء العائلي حتى في البيت الواحد والجلسة التي تجمع أفراد البيت في مكان واحد فصار لكل فرد من أفراد الأسرة غرفة بمفرده وله جهازه الخاص الذي يتواصل به مع من يحب دون رقابة، وأصبح الكل لا يعرف كم عند قريبه أو صديقه من أولاد ولا يعرف أسماءهم ولو قابلهم لم يعرفهم الا بعد أن يعرفوه.

وبعد أن استعرضنا الفوارق بين جيل الأمس وجيل اليوم أدركنا مدى بساطة جيل الأمس وترابطه وتمسكه بعاداته وتقاليده القديمة الجميلة التي فقدناها في عصرنا الحاضر وأصبحنا لا نلوم من يحن إلى هذا الماضي القريب، فما أحوجنا إلى أن نراجع حساباتنا لنستفيد مما حملته لنا المتغيرات العصرية الحديثة التي جعلت من حياتنا رفاهية إلى أبعد الحدود ولكنها بلا طعم، فنحن نستطيع أن نجمع بين ما أفرزته الحضارة الحديثة من متغيرات إلى الأفضل وذلك بالرجوع إلى ما كنا عليه من التسامح والترابط الأسري وترك ملهيات الحياة فبالتربية الحسنة والقدوة وصفاء القلوب نستطيع أن نتكيف مع مستجدات العصر وأن نجعلها عوناً لنا على تحقيق كل ما نصبو إليه من تطور ونماء في شتى مجالات الحياة.

image 0

مظاهر الحياة قديماً ساعدت في ترابط الناس وتقاربهم

image 0

زمن الماديات والشكليات أفقدنا البساطة التي كنا ننعم بها

image 0

شاشات التلفزيون لم تشغل جيل الأمس عن التواصل رغم أنها وسيلة الترفيه الوحيدة

image 0

زيارات الولادة باتت بموعد مسبق وبعضها في المستشفيات فقط

image 0

وسائل التواصل زادت من قطيعة الناس وتباعدهم

image 0

مجالس متواضعة شهدت أجمل لقاءات الأحباب والأقارب لجيل الأمس

image 0

هيبة المعلم قديماً تغيرت لدى جيل اليوم

image 0

إعداد: حمود الضويحي



from تحقيقات وتقارير http://ift.tt/2nTQstU
via IFTTT

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هاشم النعمي.. المؤرخ والقاضي والأديب

بعد اقتحامها الكونجرس.."FBI" يحقق في نية امرأة بيع كمبيوتر بيلوسي لروسيا

محمد بن لادن.. مقاول توسعة الحرمين