عملاء البنوك.. فلوس الطيّبين حفظتها الصناديق الخشبية قبل ظهور الحسابات الذهبية!
كان حمل النقود قديماً هَماً يقلق كل من يريد شراء سلعة أو سداد دين أو أي تعامل تجاري، فقد كانت النقود عبارة عن "مسكوكات" من الفضة أو الذهب، حيث كانت الجزيرة العربية على سبيل المثال قبل التوحيد تتعامل بالعملة الفرنسية والتي يطلق عليها العامة "فرانسي" أو الريال "المجيدي" أو "الجنيه الإنجليزي"، وهو جنيه ذهب مسكوك سنة 1925م الشهير بجنيه "جورج" نسبةً إلى الإمبراطور "جورج الخامس"، كما عرف أيضاً باسم محلي آخر هو "جنيه أبو خيّال"؛ لوجود صورة رجل يمتطي صهوة جواد على ظهر القطعة، وقد شاع استخدامه في الجزيرة العربية في بدايات القرن الماضي وهو من عيار (22) قيراط ووزنه ثمانية غرامات.
وعرف الناس الريال العربي السعودي في عام 1346هـ بمكة المكرمة في عهد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- الذي كان مكتوباً عليه اسم الملك عبدالعزيز سلطان نجد والحجاز وملحقاتها، واستمر الناس في التعامل بهذه النقود الفضية وتحملوا عناء حملها وعدها، وبعد ذلك ظهرت العملة الورقية في عام 1372هـ حيث أصدرت ورقة من فئة عشرة ريالات باسم مؤسسة النقد العربي السعودي، وكان ذلك إيصالاً من قبل المؤسسة لتيسير حملها لأداء فريضة الحج في سهولة ويسر ومنعاً من سرقتها، وكانت بكميات قليلة ولكنها لاقت رواجاً وثقة في التداول بين الحجاج والمواطنين، مما ساعد على إصدار الطبعة الثانية من إيصالات الحجاج في عام 1375هـ وطرحتها مؤسسة النقد العربي السعودي للتداول، وكانت من فئات العشرة والخمسة والريال، ولقد كان لها دور في بدء التفكير في تداول العملة الورقية بشكل رسمي، حيث أصدرت الحكومة أول عملة ورقية رسمية في عام 1381هـ وكانت من فئات الريال والخمسة والعشرة والخمسين والمئة ريال في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله-، وللعلم فإن أول عملة ورقية حملت صورة الملك عبدالعزيز كانت من فئة المئة ريال، وقد صدرت في عهد الملك خالد بن عبدالعزيز -رحمه الله- عام 1396هـ وهو الإصدار الثالث للعملة الورقية السعودية.
تطور الحياة
عند ظهور العملة الورقية تنفس الجميع الصعداء وذلك بمفارقة العملة الفضية التي كان من الصعب حمل الكثير منها، وبات من يريد حمل النقود يضعها في جيبه مهما بلغت من الآلاف كورقات معدودة، على عكس تلك العملة التي يتطلب حملها وضعها في كيس أو صندوق ثقيل من أجل التنقل بها، ومع تطور الزمن وانتشار البنوك ظهرت الحسابات الشخصية التي تمكن صاحب المال من حفظه لديها مقابل الحصول على شيكات يستطيع من خلالها التعامل وكتابة المبلغ الذي يريد وإعطاءه من يريد الاستيفاء، ليذهب إلى البنك ومن ثم أخذ ماله في الحال، أو أن يطلب المبلغ الذي يريد في أي وقت وفي أي فرع ويحصل عليه في الحال، كما ظهرت بطاقات الصراف الآلي التي بفضلها استغنى الجميع عن حمل المال خلال التنقل والسفر حيث سهلت مهمة الحصول على المال طوال الليل والنهار من خلال التعامل مع آلة الصراف الآلي التي تتيح صرف مبلغ محدد يومياً يفي بالغرض.
سلعة بسلعة
ويعد المال بشكل ما جزءاً من التاريخ البشري لما لا يقل عن 3000 سنة ماضية، وقبل ذلك الوقت تفترض معظم الأبحاث بأن في تلك العصور كانت تقومُ عمليات التبادل التجاري بين الأفراد والتجمعات السكانية بموجب عقود التجارة الحجرية، والتي عُرفت فيما بعد بأعمال المقايضة، حيث كانت السلعُ هي الثمن أيضاً، فيقوم البيعُ على سلعةٍ ودفع قيمتها بسلعةٍ أو خدمةٍ أخرى، وبذلك يكون المشتري قد سدّد الثمن، وتتمثل ماهيّة المقايضة بكونها تجارة مباشرة للسلع والخدمات، وفي عام 600 قبل الميلاد صك ملك "ليديا الياتس" أول عملة رسمية، وكانت مصنوعة من الالكتروم وهو خليط من الفضة والذهب يحدث بشكل طبيعي، وتم ختمها مع صور تمثل فئات العملات، وعلى الرغم من أن الصين كانت أول بلد استخدم النقود المعدنية لكن أول صكٍّ للنقود المعدنية تم إنشاؤه في مكان ليس بعيد في ليديا والتي تقع الآن غرب تركيا، ثم شاع استخدام العمل المعدنية بين الشعوب، وفي تطور النقد من المسكوكات المعدنية إلى العملات الورقية التي مثلت مرحلة انتقالية بين الناس في التخفيف عنهم في استخدام العملة الورقية بدلاً من حمل العملات الثقيلة.
عملة ورقية
وظهرت أول عملة ورقية كما اتفق العلماء في الصين بمقاطعة "سيشوان" في عهد الحاكم سونغ المنتمي لسلالة تانغ، حيث اتسعت دائرة التجارة في الصين وأصبح استخدام العملات المعدنية والفضية شيئاً غير عملي، فتم إصدار أول عملة ورقية عام 690م، وانتشرت بعد ذلك أشكال متعددة من العملات الورقية في الصين، حيث ظهر منها المزور وغير الرسمي مما أدى إلى إقامة منظمة خاصة للإشراف على إصدار الأوراق النقدية ومنع التزوير، ودعمتها حكومة سونغ بالعديد من الأختام الخاصة التي يصعب تقليدها أو تزويرها حيث كانت على جودة عالية جداً وبألوان مميزة كالأحمر والبنفسجي، كما كانت تلك العملات تستعمل فقط على المستوى الرسمي فقط وبين كبار رجال الدولة ثم أصبحت بعد ذلك منتشرة بصفة عامة ومن بعدها إلى باقي الدول، أمّا في أوربا فقد استمر الأمر باستخدام القطع النقدية المعدنية حتى عام 1600م بفضل عمليات الاستحواذ على المعادن الثمينة من المستعمرات للحفاظ على صك المزيد والمزيد من النقود، وفي نهاية المطاف بدأت البنوك باستخدام أوراق نقدية للمودعين والمقترضين لحملها بدلاً من القطع النقدية المعدنية، هذه الأوراق النقدية كان من الممكن أخذها إلى البنك في أي وقت وتبديلها بقيمة تقابلها من القطع النقدية الذهبية أو الفضية، وكانت الأوراق المالية تستخدم لشراء البضائع وتشغيلها مثل كثير من العملات اليوم، لكنها صدرت من قبل البنوك والمؤسسات الخاصة وليس من قبل الحكومة التي هي الآن مسؤولة عن إصدار العملة في معظم البلدان.
سند إقرار
وقد صدرت أول عملة ورقية من قبل الحكومات الأوروبية الذي كان صدورها من قبل حكومات المستوطنين شمال أميركا؛ لأن الشحنات بين أوروبا والمستوطنات كانت تستغرق وقتاً طويلاً مما أدى إلى نفاد النقد لدى المستوطنين بسبب توسع عملياتهم، وبدلاً من العودة لنظام المقايضة استخدمت الحكومات الاستعمارية سند الإقرار بالدَّين كعملة للتبادل، وأول مرة تم استخدامها كان في كندا ثم في مستعمرة فرنسا وفي عام 1685م أصدر الجنود بطاقات اللعب مصنفة على فئات وموقعة من قبل المحافظ لاستخدامها كنقود بدلاً من النقود المعدنية في فرنسا، كما كان الانتقال إلى النقد الورقي في أوروبا قد زاد من كمية التجارة العالمية، وبدأت البنوك والطبقات الحاكمة بشراء العملات من بلدان أخرى، وأنشأت أول سوق للعملات، وبالتالي كان استقرار ملكية أو حكومة ما يؤثر على قيمة العملة في بلد وقدرة هذه الدولة على التجارة في الأسواق العالمية.
صعوبة العد
وبعد أن استمر الناس في استخدام العملة المعدنية في بدايات العهد السعودي والمتمثلة في الريال العربي السعودي والذي صدر عام 1346هـ كان العامة يطلقون عليه اسم عربي بتسكين العين، واجهوا معاناة حمله خصوصاً إذا كان بأعداد كبيرة حيث كانوا يقضون وقتاً طويلاً أيضاً في عملية عده، وذلك بتجميع كل عشرة ريالات مرصوصة على بعضها لوحدها ومن ثم احتساب الجميع وإعادته إلى الصندوق أو الكيس لتسليمه إلى صاحبه، خاصةً في أمور البيع أو الشراء، واستعانت العديد من المصارف والشركات بـ"مكائن" عد النقود المعدنية اليدوية التي تم اختراعها لهذا الغرض، وبعد تحويل البلاد من مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها إلى المملكة العربية السعودية صدر مرسوم ملكي بتاريخ 7 جمادى الأولى 1351هـ وتقرر استخدام لقب ملك المملكة العربية السعودية بدلاً من لقب ملك الحجاز ونجد وملحقاتها إلاّ أن هذا اللقب لم يظهر على النقود إلاّ في سنة 1354هـ عندما جرى طرح أول نقد سعودي حمل الاسم الجديد للدولة بعد توحيدها، وكان ذلك على الريال الفضي الجديد وأجزائه من فئة نصف الريال، وفئة ربع الريال، كما قامت مؤسسة النقد العربي السعودي في أول سنة من عمرها 1372هـ -1953م- بتجربة إصدار ما يشبه العملة الورقية وهي ما تعرف بإيصالات الحجاج حيث يستطيع الحاج شراءها من الصيارفة عند وصوله إلى المملكة، وقد صدرت في البداية بفئة العشرة ريالات، ثم أعيد إصدار تلك الفئة إضافة إلى فئتين جديدتين من فئة الريال الواحد والخمسة ريالات.
وفي غرة رجب سنة 1379هـ، تم طرح أول إصدار نقدي ورقي رسمي، في عهد جلالة الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود بخمس فئات، هي فئة المئة ريال، والخمسين ريالاً، والعشرة ريالات، والخمسة ريالات، والريال الواحد، بتاريخ 1/1/1381 هـ، وبذلك تم الاستغناء نهائياً عن التعامل بالريال الفضي الصادر في عهد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- وبات التعامل بالعملة الورقية والذي استمر إلى وقتنا الحاضر مع توالي الإصدارات.
صراف آلي
وبعد انتشار العملة الورقية وتقدم العمل المصرفي من خلال البنوك التي تولت حفظ أموال عملائها الذين فتحوا لديها حسابات جارية، فقد وجد الناس الراحة في حمل النقود الورقية والشيكات التي تغني عن حمل المبالغ الكبيرة، واستمراراً للتقدم في العمل المصرفي فقد ظهرت آلات الصراف الآلي والتي يعود الفضل في اختراعها إلى المخترع جون شيفرد بارون، الذي جاءته فكرة اختراع أول ماكينة للصراف الآلي في العالم بعد أن عدم تمكنه من دخول البنك الذي يتعامل معه، واستلهم شيفرد بارون فكرته من ماكينة تخرج قطعاً من الشوكولاتة عام 1967م وباع فكرته لاحقاً إلى مدير تنفيذي في بنك باركليز البريطاني، والطريف في الأمر أنه عند بداية استخدام الصراف الآلي لم تكن بعض الأجهزة تقوم بإرجاع البطاقة البنكية على الفور بل يتم إرسالها عبر البريد أو تسليمها للعميل في أحد فروع البنك، وقد عرفت آلات الصراف الآلي في بلادنا في نهاية الثمانينات الميلادية والتي مكنت كل عميل الحصول على بطاقة خاصة به ليستخدمها في صرف النقد في أي وقت شاء، كما انتشرت نقاط البيع التي تتيح لكل من يملك بطاقة صراف آلي من الدفع من خلالها في أي متجر في البلاد أو خارجها ممن يتيح هذه الخدمة، وبذلك ودّع الناس معاناة حمل النقود المعدنية والنقود الورقية أيضاً خلال تنقلهم وأسفارهم وحتى في محيط سكنهم، وحلّت بطاقة الصراف محلها، وأصبح الكل لا يستغني عن وجودها في محفظته على الدوام.
تعليقات
إرسال تعليق