مهنة الصرافة.. البدايات البسيطة خرّجت أشهر رجال الأعمال
عرفت مهنة صرافة العملات منذ القدم حيث يتم فيها استبدال العملات وكذلك تحويل النقد من الذهب إلى الفضة أو العكس، وتعرف صرافة العملات بأنها محل أو مؤسسة مالية تعمل على استبدال العملات للزبائن بعملات أخرى، وتوجد في المدن الكبيرة في كل بلد، كما توجد في المطارات والمواني ويتصل عملها بالسياح وزوار البلد، وتسهل صرافة العملات صرف الحوالات والشيكات مقابل رسوم تتقضاها عن الخدمة التي تقدمها للزبائن، وهي تنتشر في معظم أنحاء العالم خصوصاً في مزارات السياح والتجار، وقد عرفت بلادنا عملية صرف العملات منذ القدم، حيث كان الناس فيما مضى يصرفون ( الجنيهات ) مثل جنيه ( جورج ) إلى ريالات من الفضة ( المجيدي) أو ( الفرانسي )، وبعد توحيد المملكة توسع العمل في الصرافة حيث كان الحجيج الذين يفدون إلى البلاد والمعتمرين يستبدلون عملاتهم بالريال السعودي عن طريق محلات الصرافة المنتشرة في مختلف مدن المملكة وخصوصاً المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة، وبعد تقدم الزمن قل الاعتماد على محلات الصرافة بعد أن صارت البنوك في كل مكان من العالم تتولى تحويل العملات مع أخذ نسبة التغيير بيت العملات، كما أن انتشار أجهزة الصراف الآلي سهلت من عمليات الصرافة حيث يقوم الشخص بصرف ما يشاء من النقود بعملة البلد التي يحل بها دون الحاجة إلى أن يقصد محلات الصرافة.
ذهب بفضة
كان النقد فيما مضى شحيحاً في أيد الناس وخصوصاً من الذهب حيث كان في كل بلدة أو قرية شخص أو اثنين فقط ممن يستطيع صرف الذهب والفضة، ومما يؤكد ذلك قصة رجل حلّ في بلدة كبيرة من بلدان نجد يريد أن يستبدل ما لديه من نقود فضية إلى نقود ذهبية ( جنيهات ) وأخذ يسأل عن من يستطيع أن يصرف له ما معه من نقود ولم يجد من يدله على أحد، وبعد أن أعياه السؤال دله أحدهم أخيراً إلى من يستطيع ذلك، وكان منزله في وسط مزرعته فلما وصل إلى المزرعة وطرق بابها خرج إليه رجل ثيابه رثة والعرق يتصبب منه جراء عمله وكده في المزرعة فسأله هل أنت فلان فقال نعم فظن في نفسه أنه قد خدع وأن هذا الذي أمامه لا يملك من حطام الدنيا شيء فهم بالرجوع والمغادرة فبادره صاحب المزرعة عن غايته فقال : لا شيء فألح عليه بالسؤال فقال إنه قد سأل عن من يستطيع أن يصرف له نقوداً فضية إلى ذهبية فدلوني عليك وأظن ذلك كان مقلباً وأنا اعتذر إليك وهم بالانصراف فاستوقفه وقال له إن لدي ما تطلب فادخل لأستطيع خدمتك فدخل مشدوهاً من هول المفاجأة فمن أين لمثل هذا الذي لا تظهر عليه آثار الغنى أن يصرف فضة بذهب، فلما دخل إلى البيت وجده متواضعاً جداً ولا يوجد به سوى أثاث قليل ومتهالك، فبادره صاحب البيت كم المبلغ الذي تريد تحويله فأخرج له كيساً به نقوداً فضية فقام بعدها وقال: إنها تساوي كذا من الجنيهات الذهبية فوافق الرجل فدخل إلى غرفة في منزله وأخرج صندوقاً مليئاً بالجنيهات فحسب له ما تم الاتفاق عليه ثم أخذ النقود الفضية وباقي الجنيهات وأخفاها داخل منزله، ويقال بأن صاحب المزرعة بعد أن صرف للرجل نقوده الفضية إلى جنيهات سأله ما هي تجارتك وعملك الذي تربح منه هذه الثروة الطائلة فقال له: ليس لدي أي عمل غير أنني إذا سمعت بأن رجلاً ثرياً قد مات وترك ثروة كبيرة ولم يكن له ورثة إلا زوجته تقدمت بخطبتها وتزوجتها فحكمتني في مالها وصرت أصرف منه على نفسي وبيتي ما أشاء، ومن ثم سأله عن اسمه فقال إنه ( قضعان )، وبعد أن ودعه وانصرف جلس صاحب المزرعة يتأمل في حاله ويفكر في نقوده التي يجمعها منذ شبابه دون أن يصرف منها شيء وخاف أن يدركه الموت قبل أن يتمتع بها أو أن يفاجئه الموت فتتزوج زوجته بعده من رجل كالذي صادفه ويتمتع بثروته، وعلى الفور قام بتغيير ثيابه وأخذ مبلغاً من المال وذهب إلى سوق البلدة واشترى ثياباً جديدة له ولزوجه واشترى لحماً ودقيقاً وكل ما يحتاج إليه من أكل وتوجه إلى منزله ولما فتحت له زوجته سألته باستغراب ما هذا الذي جئت به وهل جننت فهي لم تعهد منه إلا البخل والتقتير في مأكله ومشربه وملبسه فرد عليها قائلاً:
نبي نبيد المال قبل يبيدنا
قبل يجي قضعان للمال ويبيده
مهنة الصرافة
كانت مهنة الصرافة في بدايتها لا تتطلب مهارات معينة فليست علماً يدرس كغيرها من المهن الأخرى التي تحتاج إلى علم أو ممارسة حتى الاتقان، ولاسيما أن كل ما كان يتطلب لها هو مبلغ من المال لكي يبدأ الصراف معها عمله في تبديل العملة الأجنبية بالمحلية، ومن ثم صرفها من قبل مؤسسة النقد بفروقات قليلة كانت تمثل مكسباً من المال لمن يمتهنها، ومن أشهر مناطق المملكة التي شهدت انطلاقة مهنة الصرافة هي مكة المكرمة حيث كانت تنتشر محال صغيرة تحيط بالمسجد الحرام ينتظر فيها الصرافون قدوم الزوار من المعتمرين والحجاج لتحويل عملاتهم إلى الريال السعودي، وقد كان كل من يعمل بالصرافة يجمع ما لديه من نقد وسبائك ذهبية ويذهب بها إلى جدة أو يذهب بها أي شخص ويستقبلها مندوبه هناك حيث لم يكن هناك في السابق سوق منظم، فالذي يبيع الأول هو الرابح وكانت المنافسة كبيرة بين الجميع، كما كانت مهنة الصرافة منطلقاً للكثير من رجال الأعمال الكبار في بلادنا إذ بدؤو انطلاقتهم الحقيقة في عالم المال والتجارة من خلال بوابة الصرافة، ولعل من أبرزهم وأشهرهم الشيخ صالح بن عبدالعزيز بن صالح الراجحي حيث بدأ بفرش كيس فارغ أمام أحد سواري وأعمدة جامع الرياض يضع فوقه ريالات فرنسية وعربية وقروش يستبدل ويصرف للناس ريالاتهم من القروش التي يحضرونها، ولقد استمر صالح الراجحي في مهنة الصرافة وكان عائدها قليلاً إِلاَّ أنه لم يمض وقت حتى استبدل الكيس بصندوق صنعه له أحد النجارين وكان يضع على الصندوق منديلاً أبيضاً وفوقه الريالات وبمرور الوقت طّور صالح نفسه فقام بتكوين فاصل من الخشب في نصف دكان تقاسمه مع أحد التجار الذين يبيعون الملابس الجاهزة ثم إلى دكان استأجره من ابن كليب بإيجار شهري ثلاثة ريالات ولقد توسعت أعماله المصرفية وبدأ يمارس بيع وشراء العملات الأجنبية وعرفه الناس على مستوى الرياض وكانت له علاقات مع عدد من تجار البحرين والكويت، ثم انضم إليه أخوه سليمان وبدأ يأخذ من خبرة أخيه الذي أصبح له أيضاً صلة وثيقة مع مؤسسة النقد السعودي ومراسل لعدد من البنوك في جدة والخبر والبحرين والكويت حيث لم تكن في الرياض بنوك يتعامل معها الناس إلا من خلال التجار أمثال ( الراشد والمقيرن والسبيعى والراجحي ) وعمل صالح على تكوين مؤسسة خاصة به أسماها مؤسسة صالح بن عبدالعزيز الراجحي للصرافة افتتحها عام 1377هـ ولم يمضِ وقت طويل حتى دعمها بعدد من الفروع في مدينة الرياض والخرج والقصيم والدمام والخبر والمدينة المنورة وتبوك، وانضم الأخ الأصغر(محمد) إلى أخيه صالح في مؤسسة الصرافة بالرياض، وتوسعت أعمال الصرافة والتجارة في المملكة نتيجة التبدلات الاقتصادية وكانت أعمال الراجحي قد ازدهرت فاتحد الأخوة جميعاً على إنشاء شركة كبيرة للصرافة والتجارة برأسمال قدره ستمئة مليون ريال تمثل إحدى دعائم الاقتصاد السعودي وتدخل في العديد من المجالات (المجال الزراعي والصناعي والمقاولات ) دافعاً الناس إلى أن يضعوا مدخراتهم في الشركة الجديدة التي تساهم فيها خبرة آل الراجحي المصرفية فكانت أيضاً شركة الراجحي المصرفية للاستثمار التي أُسست سنة 1408هـ (1988م) كشركة مساهمة برأسمال قدره 750 مليون ريال موزعة على أسهم، وبالمقابل فقد حققت أسماء أخرى نجاحاً كبيراً في هذا المضمار، مثل الكعكي والعمودي والملطاني وبازيد وغيرهم، ولأن العملات الورقية لم تكن معروفة في الماضي، فقد اقتصرت الصرافة في بداية عهدها على تبديل العملات المعدنية فقط ومن أشهرها عملة (الفرانسي) التي كانت تُتداول في أغلب دول العالم، إضافة إلى ( الروبية ) الهندية، واستمر التداول بهذه العملات المعدنية ردحاً من الزمن إلى أن دخلت العملة الورقية في عملية الصرافة، إبان عهد المؤسس الملك عبدالعزيز
-طيب الله ثراه- كما يشير بعض المؤرخين، ولقد شهدت الصرافة اهتماماً منقطع النظير في ظل حرص الدولة على أمور الحجاج والمعتمرين وتوفير جميع سبل الراحة لهم، ولذا فقد كان عدد من يمتهن الصرافة محدوداً في بدايتها حيث كان لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة .
تبديل العملات
في بداية توافد الحجاج بكثرة إلى البلاد بعد أن انتشرت السيارات زاد تعامل المحلات التجارية المنتشرة على طرق الحج التي تتعامل بالنقد وتقبل أي عملة يحملونها بسعر معين، فعلى سبيل المثال فقد كانت محلات البلدان التي يمر بها طريق الحجاز القديم مثل ( ضرماء ومرات وشقراء والدوادمي وعفيف والمويه وظلم ) وغيرها من البلدان تقبل النقود التي مع الحجاج من بلدهم مثل الدينار الكويتي والعراقي حيث يسألون عن سعره أثناء موسم الحج في الرياض ومن ثم يقبلونه بفارق بسيط عند صرفه لدى الصرافين، وبالتالي يقومون بجمع ما يتوفر لديهم من نقود أجنبية خلال أسابيع أو أشهر ويذهبون بها إلى محلات الصرافة في الرياض ويستبدلونها بالعملة المحلية الريال، وقد يجني بعضهم ربحاً من تحويل عملة معينة بينما قد يخسر البعض الآخر قليلاً عند انخفاض بعض العملات، ولكن المهم لديهم هو استمرار عملية البيع والشراء والتي لو اعتمدوا فيها على العملة المحلية فلن يستطيعوا بيع ما لديهم من بضائع فقد كان جل الحجاج يأتي بعملة بلده لصعوبة تحويل ما لديهم من نقود إلى الريال السعودي في بلدانهم.
معاناة الصرافة
من المعاناة التي كان يواجهها من كان يعمل في مجال الصرافة عمليات التزوير للعملة التي لم تظهر إلا بعد أن ظهرت العملات الورقية إذ كان التعامل في السابق بالعملات المعدنية فقط، مما جعل مهنة الصرافة تتطلب مهارة خاصة تمكن من يعمل بها التعرف بسهولة على الأوراق المزيفة منذ النظرة الأولى فالصراف المحنك بإمكانه التعرف على العملة المزيفة من مجرد النظر إليها أو ملامستها وضبطها خلال صرف العملات، وهذا لا يتوافر إلا من خلال الخبرة والممارسة، وبعد تطور الزمن دخلت أجهزة كشف التزييف إلى الخدمة مما ساهم في عملية اكتشاف العملات المزيفة على الفور، ومن المعاناة التي صاحبت مهنة الصرافة هي التنظيمات والاشتراطات الجديدة التي اتبعتها مؤسسة النقد العربي السعودي التي تشترط زيادة رأس المال إلى ما يقارب المليوني ريال وهو أمر يصعب المهمة على الصرافين القدامى، على الرغم من أن هذا الاشتراط يصب في صالح مهنة الصرافة، وتحظى مهنة الصرافين كغيرها من المهن بوجود شيخ للصرافين في كل منطقة يتولى متابعة المهنة ويوصل معاناة زملائه في المهنة إلى المختصين كما يكون مرجعاً للصرافين في منطقة ليتولى حل أي إشكال يقع بينهم .
تحويل سريع
مع تطور أعمال الصرافة فقد بات بمقدور أي شخص أن يتوجه إلى أحد فروع البنوك ليحول ما لديه من نقود إلى أي عملة يريدها وخصوصاً المسافرين الذين يجدون الخدمة متوفرة على مدار الساعة في المطارات والمنافذ الحدودية، بل وباتت معرفة أسعار التحويل بين العملات تعرض بشكل يومي عن طريق البنوك أو المواقع المتخصصة عبر الشبكة العنكبوتية، وبذلك قل اعتماد الناس على محلات الصرافة، في حين أنه يمكن لأي عميل في أي بنك أن يحصل على النقد الذي يريده من عملة الدولة التي يريد السفر إليها عن طريق استخدام أجهزة الصراف الآلي في نفس البلد فتصرف له بالعملة المحلية للبلد التي يتواجد فيها ويقوم البنك بخصم فرق العملة ويتحصل كذلك على رسوم مناسبة للعملية مما جعل الكثير يعمد إلى هذه الطريقة دون عناء الذهاب إلى الصرافين في الداخل والخارج.
from جريدة الرياض >http://ift.tt/2yMuA6X
via IFTTT
تعليقات
إرسال تعليق