"الـدلاّل".. مــزادات الإنـتـرنـت تفوقت على دلاّلة الصوت !


كان مرتادو الأسواق في الماضي القريب معتادين على سماع من يصيح بأعلى صوته ليلفت انتباههم إلى ما يعرض من سلعة ويجذبهم إلى ما عنده وذلك ببيان مميزات هذه البضاعة وفوائدها وإن كان أكثر وصفه ومدحه مبالغاً فيه، ولكن ذلك هو طريقه من أجل بيع ما لديه من سلع، ويعرف هذا الشخص باسم (الدّلاّل)، الذي يقوم بالدوران في السوق مثل سوق ( الزّل ) مثلاً في العاصمة الرياض، وهو يعرض ما لديه من سلعة على الرواد، فإن كانت مما يلبس كـ ( البشت ) أو الشماغ والعقال مثلاً، لبسها وأخذ يدور بها وهو مرتديها، وإن كانت من العود أو العطور أو الكماليات حملها على رأسه أو بين يديه وواصل المسير، وقد يستوقفه بعضهم ويقلب هذه البضاعة ويتفحصها جيداً ويزيد في سعرها إن أعجبته، فيقوم بالسير قدماً في السوق معلناً السعر الجديد الذي زاده من استوقفه وعند نهاية الجولة فإنه يبحث عن آخر من ( سام ) سلعته ويبيعها عليه بعد أن يعطيه مالكها إشارة برضاه بالمبلغ الذي وصلت إليه فيقبض الثمن ومن ثم يعطيه لصاحب السلعة الذي يدفع له أجرة البيع، ولذا فقد كان من تضطره الحاجة إلى بيع سلعة ما ويأمل أن تبلغ هذه السلعة الثمن الذي يحتاجه تراه يلجأ إلى شخص ليبيعها له ذي خبرة في البيع والشراء وهو ( الدّلاّل ) الذي قد تمرّس على عمليات البيع والشراء، لذا فإنه غالباً يبيع السلعة بأعلى ثمن ومن ثم يقبض عمولته على ذلك والتي تكون في الغالب من البائع بنسبة معينة يتفق معه قبل عملية البيع، وقد جرت العادة أن تكون ربع العشر من القيمة، أي ما نسبته اثنان ونصف في المئة، أو أكثر أو أقل حسب الاتفاق بينه وبين البائع، ومع مرور الوقت والتطور الذي شمل كافة أنشطة الحياة تطورت مهنة الدلالة؛ فبالأمس القريب تسمع من ينادي على سلعة معينة ويذكر سعرها الرخيص مثل عبارة ( قرب يا ولد.. كل شي بريال يا بلاش ) ونحوها من العبارات التي تجذب الزبائن وتجعل من لا يريد الشراء يبادر إلى الشراء حتى ولو كان في غنى عنها، فعلى سبيل المثال كان من يبيع الحاجيات الكمالية من أطعمة وألبسة وغيرها ويدور بها بين البيوت يرفع صوته وهو يحملها على رأسه في ( زبيل ) مصنوع من خوص النخيل فيقول مثلاً ( اشتر التوت.. اللي ما يذوقه يموت ) وقد كان ذلك في بداية ورود شراب التوت حيث يحضرونه من الرياض أو مدن الحجاز، كما كان من يبيع ( البليلة ) في الحجاز يردد (بليله بلبلوكي.. بالخل والكمون زينوكي ) وغيرها من العبارات التي تجذب الزبائن، وقد استغنى العديد من هؤلاء الباعة عن المناداة بأصواتهم، وذلك بوضع آلة تسجيل بجانبهم مسجلاً بها العبارة التي يريدونها لتقوم آلة التسجيل بترديدها مدة تواجدهم في السوق أو إلى حين ينتهون من بيع جميع بضاعتهم، كما انحصرت مهمة الدلال في عصرنا الحاضر في بعض المهن أو الأسواق مثل مهنة بيع السيارات في المعرض أو أسواق حراج الخضروات والفواكه، وحل محل مهنة ( الدّلّال ) المواقع الإلكترونية التي يعرض فيها كافة المزادات لجميع القطع الجديدة أو القديمة والمستعملة سواءً كانت داخل البلاد أو خارجها، وباتت تلك المواقع تستقطع نسبة معينة من البيع والشراء كعمولة لها على تقديم هذه الخدمة.

الدَّلاَّل

الدَّلاَّل يُطلق على من ينادي على السلعة لبيعها، والدِّلاّلة بكسر الدال أو فتحها هي أجرة الدلال أو مهنته، وفي لسان العرب: الدَّلاَّل هو الذي يجمع بين البَيِّعَيْن، والاسم الدَّلالة والدِّلالة، وقال ابن دريد: الدَّلالة بالفتح حِرْفة الدَّلاَّل، وصاحب اللسان هو الدلال أو الساعي بين البائع والمشتري أم أجرة الدلال فتسمى في اللغة العربية الفصحى ( الدِّلالة ) وقال اللحياني إن أجرة الدلال تسمى كذلك ( الحُلْوان )، والدلالة أو البيع بالمزاد من الحرف الموغلة في عمق التاريخ، عرفتها الحضارات اليونانية والرومانية القديمة، وقد أجاز الإسلام البيع بالمزاد، حيث عرف بـ( بيع من يزيد ) فقد روي عن أنس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم باع حلساً وقدحاً بيع من يزيد )، وقد ظل الناس يظلمون هذه الحرفة، ويذمون نفاق الدّلّال ورياء وساطته بين البيعين، لذا أصبح كذب الدلال مضرب ( مثل ) وقالوا: ( لكل امرئ رأس مال ورأس مال الدّلّال الكذب )، ومما يتندرون به في هذا المجال ما دلى به ( جحا ) صاحب النكت هو الآخر بدلوه في المسألة حيث يحكى أنه أخذ حماراً هزيلاً بطيئاً ليبيعه في السوق، فأعطاه للدلال فأخذ الدلال يقول: من يشتري حماراً قوي البنيان سريع الخطو، لا عيب فيه، ففكر جحا قليلاً وقال: والله لأشترينه.. فأخذ يزايد مع المشترين حتى وقع عليه المزاد، فأعطى الدلال الثمن وعاد بحماره وهو سعيد، وعند ذكر ( الدلالة ) فلابد من التفريق بين الدلالة القضائية والإدارية التي تنظمها الجهات الرسمية، وبين الدلالة الاختيارية، التي تهمنا هنا في مظاهرها التقليدية حيث يمكن التمييز، في هذه الأخيرة، بين شكلين: الدلالة المختصة، والتي يقوم فيها الدلال بالوساطة بين الصناع والحرفيين من جهة، والتجار من جهة أخرى (كالدلالة في أسواق السمك والزرابي والجلد الخ...) والشكل الثاني هو الدلالة العامة التي تقام في أماكن وأوقات معينة، كل يوم أو كل أسبوع، ليبيع فيها من شاء أي شيء عن طريق الدلال، كالحراج الأسبوعي الذي يعقد في نهاية كل أسبوع في عدد من المناطق، والدلالة في شكلها التقليدي الأصيل مهنة ما زالت تمارس إلى يومنا الحاضر في العديد من المدن وتكاد تقام بشكل يومي كما هو الحال في معارض السيارات حيث يخصص في ساحة قريبة منها مكان للحراج على السيارات يحضره الذين يبحثون عن سيارة للاستخدام الخاص كما يحضره أيضاً من جعل البيع والشراء للسيارات مهنة له، ويطلق الناس على هؤلاء المتاجرين اسم ( الشريطية ) الذين يشترون السيارات بل ويتصيدونها من زبائنهم قبل الوصول إلى السوق في ظاهرة تسمى ( تلقي الركبان ) والتي نهى عنها الشرع الحكيم فيشترون السيارة بثمن منخفض ومن ثم يسوقونها ويبيعونها بسعر أكثر فيكسبون مبالغ مجزية، وقد حصل عالم الاقتصاد الكندي ( ويليام فيكري ) على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1996م على أعماله حول نظرية المزاد، وتعددت أشكال المزاد ( اختياري - قضائي – إداري ) وتنوعت أساليبه، إلا أن البيع بالمزاد احتفظ في العمق بجوهر فكرته البسيطة في العرض والطلب والوساطة فيما بينهما، وأصبح المزاد هو كل آلية مهيكلة للمنافسة بغرض تحديد من سيحصل على الشيء المعروض للمزاد، وتحديد بأي ثمن سيحصل عليه.

دّلاّل زمان

كانت مهنة ( الدّلّال ) فيما مضى تستلزم من الشخص أن يكون صوته جهورياً، وأن يتصف بخفة الحركة والتمرس على ملاقاة الناس أي أن يكون جريئاً في حديثه وواثقاً منه حيث تزيده هذه الصفات من إقناع المشتري بسهولة، وبالتالي تسويق ما يعرضه من بضاعة بمدحها والثناء عليها، وقد ورد ذكر هذه المهنة في أشعار الكثير من الشعراء ومن بينهم شاعر عنيزة الكبير محمد العبدالله القاضي حيث يقول في قصيدته الشهيرة عن القهوة:

يا مل قلب كل ما التم الاشفاق

من عام الاول به دواكيك وخفوق

كنه مع الدلال يجلب بالاسواق

وعامين عند معزل الوسط ماسوق

ويكشف له اسرار كتمها بصندوق

يجاهد جنود في سواهيج الاطراق

كما كانت مهنة ( الدّلّالة ) حاضرة بقوة في حياة الناس في الماضي القريب حيث يشتهر في كل بلدة واحد أو اثنان وبحسب كبر البلدة، فعندما يراد بيع شيء عن طريق الحراج فإنه على الفور يستعان به من أجل إنجاح هذه المهمة، فعلى سبيل المثال فقد كان الكثير من الناس تضطره الحاجة إلى رهن بيته أو مزرعته من أجل اقتراض مبلغ من المال وعندما ينتهي الأجل فإن مصير ما رهنه يكون هو البيع حيث يتولى ( الدّلّال ) ذلك، وكم شهدت مجالس البلدات التي تحيط بها المحلات التجارية مناداة ( الدّلّال ) على بيع مزرعة أو بيت بعد أن يصدر قاضي البلدة أو أميرها إن لم يكن بها قاض لصغرها كتاباً يعلن فيه للحضور في مجلس البلدة عن بيع ما رهنه أحد الناس لعدم وفائه لمن أخذ منه الدين ويتم تحديد ( الدّلّال ) وأجرته، ومن ثم يتم فتح المزاد والمساومة بين الحضور حتى يتم البيع ويعطى ( الدّلّال ) أجرته، ومن الحوادث التي تستلزم حضور ( الدّلّال ) هو وفاة أحد سكان البلدة ممن ترك إرثاً وورثة حيث يقومون بعرض ما لديه من أملاك وأثاث وأغراض للبيع حيث يتم بيع كل ما ترك بعد إحضاره في مجلس القرية ليقوم ( الدّلّال ) ببيع ذلك قطعة قطعة أو كل المعروض ويتم المزاودة في السعر بين الحضور، حيث يبدأ ( الدّلّال ) الحراج بكلمة دارجة وهي ( من يفتح الباب ) أو ( من يفتح السوم ) وإذا تصاعد السعر يقول ( من قال كذا ) أي مبلغ أكبر، وإذا توقف السوم يقول ( من يزيد، نبيع.. نقول الله يرزقه ) فإذا سكت الجميع فإن ذلك دليل على أنه لن يزيد أحد فيقول كلمة ( نصيبك ) لآخر من زاد في السعر، ومن العجيب أن سعر ما يعرض من أغراض وأثاث الميت تبلغ أسعاراً عالية قد تتجاوز سعرها لو كانت جديدة ولعل السبب هو وجود الكثير ممن يزيد على سوم غيره من أجل سلعة معينة من بين ما يعرض ويزايد من أجل الحصول عليها ولو استمر السعر في الزيادة حتى يحظى بها، ولعل قصيدة الشاعر عبد العزيز بن ناصر الهذيلي توثيق لذلك حيث يقول في قصيدة جميلة:

عديت في مرقب بيـن الشفـا العالـي

مرقاب غـي يـذل الطيـر مـن دونـه

تلقى لحرش المواطـي فيـه مدهالـي

عنهـا القنانيـص يلتاجـن بركـونـه

حب الحبيب صبـغ مـا عـاد ينجالـي

لو كل يوم بصافـي المـاء يغسلونـه

غض النهد وان وطا فـي وادي سالـي

ينبت نفـل والزبيـدي منـه يجنونـه

له مشيـة مـا مشاهـا اول ولا تالـي

واللـي خلافـه وقـدامـه يراعـونـه

يبكي عليه القصـر والمجلـس العالـي

حتـى الفناجيـل ودلالـه ينوحـونـه

يـا حافريـن القبـر خلـوه منـزالـي

واللـي علـى قـد راسـي لا تغطونـه

خلوني اشوف من سير ومن جـا لـي

واشوف غض النهد يمشي على هونـه

وسمعت عقب العصير صيـاح رجالـي

واثـره حـراج علـى قشـه يبيعونـه

دلالة عصرية

واكب التحول الذي يشهده الاقتصاد العالمي بالانتقال إلى المعاملات التجارية الافتراضية، التي تقدر بملايين الدولارات في الشهر، ظهور وتطور البيع بالمزاد عبر الإنترنت أو الدّلالة الافتراضية، وقد لقيت الدّلالة الإلكترونية نجاحاً باهراً، وبدت تزداد انتشاراً يوماً بعد يوم، ففي هذه الدّلالة تعرض مختلف أصناف السلع من مأكولات وملابس وأوانٍ وسيارات وعقارات وتحف فنية وغيرها، وتمكن البائع والمشتري على حد سواء من بيع وشراء سلعهم بطريقة بسيطة وسريعة وفعالة، وفي هذا الصدد ظهرت عدة مواقع محلية بل وعالمية على الإنترنت منها موقع ( مستعمل ) و ( حراج ) مثلاً وغيرها الكثير، وباتت تلك المواقع تستقطع نسبة معينة من البيع والشراء كعمولة لها على تقديم هذه الخدمة.

حراج التمور يحظى بنشاط كبير لمهنه الدّلّالة
أحد المزادات القديمة
حراج في أحد الاسواق الشعبية
سوق الحراج بالرياض عام 1373 هـ حيث كان الدّلال حاضراً بقوه


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هاشم النعمي.. المؤرخ والقاضي والأديب

بعد اقتحامها الكونجرس.."FBI" يحقق في نية امرأة بيع كمبيوتر بيلوسي لروسيا

محمد بن لادن.. مقاول توسعة الحرمين