محامون «أطلّعك منها زي الشعرة من العجينة».. أخلاقيات المهنة أولاً !


ازدادت حدة انتقادات المحامين خلال الفترة الأخيرة في ظل المتغيرات المتسارعة في أنظمة المحاكم الشرعية والقوانين التي يحصل فيها التباس وعدم فهم لكثير من المسائل القانونية وما يخص المحاكم واختصاصاتها، فهناك من يرى أن المحامين بشكل عام لديهم قصور في الجانب التوعوي سواء في منابرهم الإعلامية مثل "تويتر" و"الفيس بوك" أو في مكاتبهم الخاصة، وهناك من يشكك في أخلاقيات البعض منهم ويقول: إنهم بمقابل المال يقلبون الحقائق، مستشهدين في بعض القضايا التي خسرها أصحابها المحقون بها بسبب ظلم المحامي، ومازالت العبارة الشهيرة التي عرفت أو خرجت من مكاتب المحاماة "أطلعك منها زي الشعرة من العجينة" تشكّل هاجساً مقلقاً لأصحاب الحقوق الشرعية والقانونية في أروقة المحاكم وفي النيابة العامة وغيرها من جهات الاختصاص.

محاكمة عادلة

في البداية قال د. ماجد الفيصل -محاضر في النظام الجنائي بكلية الحقوق جامعة الملك عبدالعزيز-: إن التوعية بحد ذاتها غاية حسنة وهنا لابد من التفرقة بين آثار التوعية الإيجابية وبين تقديم معلومات خاطئة أو قاصرة بقصد التسويق فقط والشهرة، ولفت أنظار المجتمع لغرائب الآراء دون سند حقيقي من الشرع أو النظام، مضيفاً: "لزاماً على المحامي عندما يساهم في توعية المجتمع أن يكون حريصاً على إظهار إيجابيات النظام وتطبيقه وتحذير الجمهور من آثار الجهل بالأنظمة، وأن يتحرى البحث في تلك المواضيع قبل التصدي لها حتى لا يقع في المساهمة بتقديم معلومات غير دقيقة من شأنها إيقاع المتلقين في أخطاء أو قضايا أو بث فوضى التوسع في التجريم والعقاب بإخافة أفراد المجتمع دون سند من الشرع أو النظام، فيقيد المباح ويجرم الأفعال دون نص من الشرع أو النظام"، مبيناً أن تسارع المنظومة التنظيمية والقضائية في المملكة أمر يدركه الجميع ويحتاج فعلاً إلى مساهمة المحامين في خدمة المجتمع سواء بشكل فردي من قبلهم أو من خلال مؤسسات المجتمع المدني الهادفة لتحقيق رفع التوعية القانونية في فروع مختلفة من القانون مثل الجمعيات المعنية بحماية أفراد الأسرة والسجناء ونحوهم.

وفيما يتعلق بموقف القانونيين من المحامي الذي يطلب من المتهم المدان مبلغاً معيناً مُوهِماً إياه بقول: "أطلعك من الجناية زي الشعرة من العجينة"، أكد على أن لابد أن يعي المجتمع أن المحامي ملتزم ببذل عناية وليس تحقيق نتيجة، لاسيما في القضايا الجنائية، وذلك لأسباب عديدة أولها أن النتيجة مرتبطة بمحاكمة المتهم التي قد يظهر من خلالها أدلة اتهام لم يكن المحامي على الإلمام بها عندما التزم بتلك النتيجة، أمر آخر لا يقل أهمية عن السابق أن دور المحامي هو تحقيق محاكمة عادلة للمتهم حتى وإن ترتب عليها معاقبته على الفعل المجرم الذي ارتكبه، فليس دور المحامي أن يساهم في إفلات متهم من العقاب، أو أن يعمل على إعاقة معاقبة الجاني عمّا فعله بطرق غير مشروعة، وإنما دوره المساهمة في تحقيق محاكمة عادلة ليثبت من خلالها براءته أو إدانته وفق الأنظمة المرعية.

مبادئ العدالة

وحول من يشكك في أخلاقيات البعض من المحامين ويقول: إنهم بمقابل المال يقلبون الحقائق، وأن هناك قضايا خسرها أصحابها المحقون بها بسبب ظلم المحامي، أوضح د. الفيصل على أن الأصل في المحامين هو ممارستهم مهنتهم وفق واجباتها وأصولها وأخلاقياتها، وأنهم يقدمون خدماتهم المهنية وفق مبادئ العدالة بل يصف فقهاء الأنظمة المحامين بأنهم القضاء الواقف المساهم في تحقيق تلك العدالة، وما تراخيصهم إلاّ تأكيداً على افتراض ذلك بهم، ومع ذلك فإن الأنظمة الجنائية لم تستبعد أن يرتكب المحامي أو غيره جرائم من شأنها إعاقة العدالة أو تعطيلها، لذلك لابد أن يعلم أفراد المجتمع أن المحامي أو غيره متى ارتكب فعلاً مجرماً فإن الكشف عن تلك الجرائم أمر يسير وممكن، كما أن السلطة التنظيمية تعمل على محاولة حماية سلطات الدولة التنفيذية والقضائية من وقوع تلك الجرائم في أروقتها، فعلى سبيل المثال تتمتع السلطة القضائية بضمانات استقلال القضاة حيث لا يخضعون في أحكامهم إلاّ لسلطان أحكام الشريعة الإسلامية وما يضعه ولي الأمر، ليس ذلك فحسب، فهناك رقابة لاحقة على تطبيق أحكام الشرع والنظام من قبل المحاكم الأعلى درجة، ومبدأ الرقابة اللاحقة لا يقتصر فقط على السلطة القضائية، بل يشمل السلطة التنفيذية بعدة أوجه ومنها توزيع الاختصاصات داخل الجهة الإدارية الواحدة كمقتضى من مقتضيات الرقابة الإدارية، فضلاً على اختصاص جهات أخرى بفرض الرقابة الإدارية والقضائية اللاحقة.

قوة الحجة

وتحدث د. عبدالله بن ربيق -عضو الجمعية العلمية القضائية السعودية- قائلاً: إن المحامي هو وجه العدالة الثاني؛ لأن المحامي هو من يظهر الحقيقة ويوضحها ويؤيدها بالحجج والبراهين، فإذا اختل هذا الوجه للعدالة فلا عدالة لغموض كشف الحقيقة، وكما قيل: "إن العدالة نتيجة حوار بين قاضٍ مستقل ونزيه، وبين محام حر وأمين"، لأن الحقيقة لا تدافع عن نفسها بنفسها بل تحتاج إلى بلاغة التعبير وقوة الحجة؛ لأنهما لازمتين لإظهار الحق، وقد قرر القرآن الكريم أهمية الفصاحة في الإقناع، قال الله تعالى على لسان موسى عليه السلام: "قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ، وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ"، ومن اتخذ المحاماة صناعة وتجارة فقد فشل ولو أصاب منها مجداً ومالاً وفيراً؛ لأن الأمانة والنزاهة والصدق والثقة أدوات المحامي النبيل، مُشدداً على دور المحامي التوعوي في المسائل القانونية وشرح الأنظمة وما يستجد منها، خاصةً في هذا الوقت الذي يشهد متغيرات متسارعة في الأنظمة، وتعاميم كثيرة للمحاكم الشرعية واختصاصاتها، وتطوير كثير من القوانين الجنائية، الأمر الذي يحدث معه التباس وعدم فهم لكثير من المسائل والجوانب القانونية، ذاكراً أن هذا الدور مطلب إنساني لكل محامٍ نبيل.

تحري المصداقية

وبيّن د. ابن ربيق أنه يختلف المحامون في هذا الجانب بين مغالٍ وجافٍ، وبين محتسبٍ ومكتسب، فالبعض يُكْثِر من الوعي الثقافي المجاني بكل ما يعرف وما لا يعرف، يهدف إلى الظهور الإعلامي فقط -وهذا أمر غير مقبول-، والبعض يبتعد عن الوعي الثقافي المجاني ويطلب الأموال على كل استشارة قانونية، ويحسب أجره بالساعة مقابل كل استشارة، وهذا قد يكون في بعض القضايا التي تتطلب تلك الاستشارة غالية الثمن، لكن في ظل نشاط الثقافة القانونية وسهولة الوصول للمعلومة، لا أتوقع أن يجد مثل هؤلاء رواجاً إلاّ من فئة قليلة معينة، فالوعي الثقافي القانوني بالمجان وفي كل موقع أو حساب قانوني -وهذا أمر محمود-، لكن لابد أن يتحرى المحامي المصداقية في معلوماته التي ينشرها، ويحرص على الرجوع للمراجع والأنظمة فيما يقدمه من وعي وثقافة قانونية، ويبتعد كل البعد عن نشر الأحكام أو التعليق على القضايا المنظورة في المحاكم، أو نشر التجريم والعقوبات عن كل حادثة تنتشر في مواقع الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي.

استشارات مجانية

وشدّد ناصر التويم -رئيس لجنة المحامين في غرفة مكة المكرمة وعضو اللجنة الوطنية للمحامين- على دور المحامي في التوعية القانونية، وقال: إن هذا الأمر جداً مهم ويحتاج إليه المجتمع؛ لأن الوقاية خير من العلاج ويمكن للمحامي تحقيقه من خلال مشاركته في نشر ثقافة القانونية العامة، وتخصيص جزء من وقته للاستشارت المجانية، مضيفاً: "لاشك أن مهنة المحاماة هي أنبل المهن كونها تدافع عن الحق وتنصر المظلوم وتحقق العدل، ولا يحق للمحامي تضليل موكله وعدم اطلاعه على موقفه القانوني بشكل كامل، ولا يحق له أيضاً أن يعده بشيء قد يعجز عن تحقيقه، فالمطلوب منه هو بذل عناية الرجل الحريص في كل عمل يقوم به"، مبيناً أنه لا يحق للمحامي نصرة الظالم على المظلوم لحرمة ذلك الأمر، والواجب عليه عند علمه بذلك إمّا رفع الظلم أو الابتعاد عن الوقوف معه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، قالوا: "يا رسول الله هذا ننصره مظلوماً، فكيف ننصره ظالماً"، قال: " أن تأخذ على يديه".

منظومة عدلية

وانتقد د. ريان البغدادي -عضو النيابة العامة المفتش بإمارة مكة المكرمة سابقاً- المحامي الذي يزعم أن بيده مفاتيح القضية، ويغري بها المدان أو غيره، قائلاً: إن هذا يدل على فشله الأخلاقي أولاً باستخدام الكلمات الباهرة الملبسة الحق بالباطل، وكذلك دلالة على فشله المهني ثانياً؛ لأن المحامي الجيد هو الذي يصدق مع موكله ولو كان الأمر ليس في صالحه، أمّا اغترار بعض المحامين والمحسوبين على هذه المهنة بأنه يستطيع الالتفاف على النظام فهذا يعيش بعقلية أقصى ما يطلق عليها عقلية "دعوجية" انتهى زمانها وولى، ونحن الآن -بحمد لله ورعايته- نعيش في ظل منظومة عدلية متجددة ومتطورة، وهيكلة قضائية تتعامل وفق الأنظمة المرعية.

د. ماجد الفيصل
د. عبدالله بن ربيق
د. ريان البغدادي
ناصر التويم


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هاشم النعمي.. المؤرخ والقاضي والأديب

بعد اقتحامها الكونجرس.."FBI" يحقق في نية امرأة بيع كمبيوتر بيلوسي لروسيا

محمد بن لادن.. مقاول توسعة الحرمين