ذوو الاحتياجات الخاصة.. من الإحباط إلى الرعاية والاهتمام
لا أجمل في هذه الدنيا من براءة الطفولة، فهي مرحلة يغيب فيها إحساس المرء بما حوله، ويعيش اللحظة دون أن يشغل باله بأي شيء آخر، فأكبر همه هو اللهو واللعب والبحث عن المتعة بعيداً عن تعقيدات الحياة وتبعاتها، ولكن قد يحدث بعض الأحيان ما ينغص تلك البراءة منذ أن يعي الطفل مدى اختلافه عن الآخرين حينما يتحسس جسمه ليجده غير قادر على بعض الحركات التي يتمتع بها من حوله من الأطفال في مثل سنه أو أصغر، ومن أهم هذه الحركات هي القدرة على الوقوف والمشي بسبب تعرضه لشلل الأطفال، وهذا ما حدث في سن مبكر لعبدالعزيز الذي أتم عامه السادس وهو يتمنى أن يأتي اليوم الذي يغادر فيه المنزل متوجهاً إلى المدرسة مع أقرانه، ولكن إعاقته إثر تعرضه لشلل الأطفال يحول بينه وبين ذلك الطموح، فقد فتح باب منزلهم في اليوم الأول الذي يغادر فيه الأطفال منازلهم بصحبة أبائهم إلى المدرسة وصار ينظر إليهم وهم يحملون حقائبهم، تغمرهم السعادة بينما أحاطت به غيمة سوداء من الحزن أمطرت سحائبها من دمع عينيه مزناً ليغلق بعدها الباب زاحفاً إلى والده ووالدته اللذين مازالا يغطان في نوم عميق ليتساءل ببراءة الطفولة بعد أن أيقظهما "متى سأمضي إلى المدرسة مثل أقراني من أبناء الجيران والحارة؟"، ليأتيه الجواب المبيت سريعاً: "عندما يتم أخاك الصغير ست سنوات"، ومضى سريعاً يحسب بأصابعه فقال: "يعني بعد سنتين؟"، فعمر أخيه أربع سنوات، ليجيباه: "نعم"، فسألهما مرةً أخرى: "لماذا أنتظر أنا حتى يبلغ أخي ست سنين؟، فأنا قد بلغتها الآن، فلماذا أنتظره سنتين؟"، ليقولا له: "لأنه يتوجب عليه حمل حقيبتك لأنك لا تستطيع ذلك فبالكاد تمشي مستخدماً عكازيك، كما سيكون سندك وعونك في التنقل داخل مرافق المدرسة"، وبالفعل انتظر عبدالعزيز سنتين ليدخل المدرسة وعمره ثماني سنين، ليندمج مع زملائه في المدرسة ويدرس ويتفوق على كثير من الأسوياء منهم ويتخرج من المرحلة الابتدائية، ويظل ملازماً لعكازيه حتى تخرج من الجامعة ودخل سوق العمل، ليكمل حياته دون أن تقف الإعاقة في طريقه، عبدالعزيز هذا أنموذج للعديد من الذين تحدوا الإعاقة وانتظموا في الدراسة ودخلوا معترك الحياة بإصرارهم وعزيمتهم في وقت لم يكن هناك اهتمام كبير بهذه الفئة سواءً من البيت أو المجتمع، وواصل تعليمه حتى تخرج من الجامعة، وانخرط في سوق العمل وكون حياته وأسرته رغم إعاقته.
غياب الإمكانات
كان الكثيرون يعانون عند تعرض أبنائهم الصغار لأي إعاقة وخاصة شلل الأطفال، وذلك لعدم توفر الإمكانات في مستشفيات البلدان قديماً، مما يضطرهم إلى السفر من أجل مراجعة المدن الكبرى التي تتوفر بها مستشفيات، وإن كانت كبيرة في تلك الأيام، إلاّ أن إمكاناتها كانت أيضاً متواضعة فليس هناك قسم للتأهيل أو العناية الفائقة أو أجهزة متطورة، مما يضطر المراجعين إلى أخذ أبنائهم معهم إلى المنزل بعد التنويم لأيام عدة ومن ثم تبدأ سلسلة المراجعات حتى تستقر حالة الطفل، ومن ثم يبقى حبيس البيت طريح الفراش، والمحظوظ منهم من يستطيع المشي بواسطة "عكازين" يتم صرفها له من قبل المستشفى لتعينه على المشي، وإن كان المشي بصعوبة، ومن لم يوفق في استكمال العلاج أو كانت حالته شديدة فإنه يكون حبيس المنزل طوال عمره، وليست الإعاقة فيما مضى مقترنة بالصغار الذين يصيبهم الشلل، بل كان كبار السن أيضاً يعانون من الإصابة بـ"الجلطة" مما يجعلهم يغيبون عن الوعي تماماً في بدايتها ومن ثم يبدأ التحسن تدريجياً بعد مراجعة الأطباء في المستشفيات ومن ثم يتم إخراجهم ليتولى ذووهم تأهيلهم بأنفسهم في البيت من حيث الرعاية والنظافة وإعطاء جرعات العلاج، حيث لم يكن يتوافر أقسام في المستشفيات للتأهيل والعلاج الطبيعي الذي يعود معه المريض تدريجياً إلى صحته مع بقاء علامات المرض طويلاً ولكنه يستطيع التغلب على مضاعفات "الجلطة" والتكيف مع ظروفه، وفي ظل انعدام ذلك فإن المريض يبقى حبيس الفراش في البيت ولا يستطيع النهوض أو المشي.
طريقة بدائية
وكان البعض ممن لديه مريض يحرص كل الحرص على ألاّ يبقى المصاب وحده، بل يكون أحد أفراد الأسرة حوله ليعينه على قضاء حاجته أو تناوله للدواء والغذاء، وبما أن المريض لا يستطيع النهوض من الفراش والجلوس، فقد ابتكر البعض طريقة بدائية ظلّت لعقود هي المتبعة في استعانة المريض بها في الجلوس وذلك بوضع "جنط" كفر سيارة بالقرب من موضع قدميه وربط حبل قوي ومتين به بحيث يقوم المريض بالإمساك بالحبل وجره إليه حتى ينهض ويجلس فيكون بمثابة مساعد على النهوض، وفي المقابل فإن من يصيبه مرض يكون المرء معه عدائياً كـ"الصرع" أو فقدان العقل فإن مصيره هو وضع قيد في قدميه وربطه بسارية المنزل كي يحد من مشيه عندما تأتيه الحالة فيؤذي من حوله أو يؤذي نفسه أو يقوم بالهرب من البيت، فيكون عرضة لأن يتيه فيهلك إمّا بالسقوط في أحد الآبار، أو التردي من أحد الجبال، أو اصطدام سيارة مسرعة به دون علمه، أو ضياعه خارج القرية فيقع فريسة للجوع أو أحد الضواري.
مسميات مُحبطة
وكان المجتمع فيما مضى قاسياً مع أصحاب الإعاقة وذلك نظراً لانعدام ثقافة التعامل مع هذه الفئة، وجدية الناس، فقد كانت طبيعة الحياة تتطلب المضي في تحصيل لقمة العيش في المزارع والحقول والعمل البدني المرهق قبل أن يعرف الناس حياة الترف واستحداث الوظائف الحكومية التي جعلت من العمل متعة، فتراهم يطلقون على اسم كل عاهة مسمى محبط، فإذا رأوا طفلاً مشلولاً يقولون "محرول" ومن لا يستطيع المشي سوياً لأي مرض كان يقولون عنه "معوق"، أمّا إذا كان مشيه به عرج يقولون "الأعرج"، وللصغير "أعيرج"، ومن لا يستطيع الكلام "الأطرم"، ولمن لا يستطيع السمع "الأصقه"، أمّا من لا يستطيع الإبصار فيقولون عنه "أعمى"، وظلت تلك الحالة من التسميات القاسية لعدة أجيال حيث كان يقال عند وصف شخص للتعريف به على سبيل المثال "ولد بنت الأعرج"، وهكذا، ولكن بعد انتشار الثقافة والتعليم بين أفراد المجتمع ظهرت مسميات جديدة لهم فيها احترام لمشاعرهم بعيداً عن التجريح أو التأثير في نفسياتهم، فقد بات يطلق على ذوي الإعاقات، ذوي الاحتياجات الخاصة، أمّا من لا يستطيعون الكلام أو السمع "الصم والبكم"، والأعمى "كفيف" وهكذا.
معهد للمكفوفين
وظهر الاهتمام بذوي الإعاقات منذ وقت مبكر حيث تم العمل على إشراكهم في الحياة العامة فصار الكفيف تتاح له فرصة التعليم وكانت بداية الانطلاق في ذلك في العام 1373هـ، حينما تعلم كل من محمد بن سعد بن حسين، ومحمد بن عبدالرحمن، علي سويد على يد أحد المواطنين واسمه أحمد أبو حسين، والذي قد تعلمها في العراق، ثم انضم إليهم فيما بعد الكثير ولم يتوقفوا عند هذا الحد، فقد كانت طموحاتهم أكبر، لذا بذلوا مجهوداً جباراً من أجل إقناع بعض الجهات التعليمية لتبنى هذه الفكرة، حتى استجابت بالفعل المعاهد العلمية والكليات في فتح فصول مسائية ملحقة بكليات اللغة العربية بالرياض والتحق بها عدد من المكفوفين والمبصرين، أيضاً من منتسبي المعاهد العلمية والكليات في ذلك الوقت، واستمرت هذه الجهود حتى استجابت وزاره المعارف سابقاً -وزارة التعليم حالياً في منح هؤلاء مدرسة جبره الابتدائية في الفترة المسائية لتكون مقراً لتعليم المكفوفين هذه الطريقة في العام 1378هـ، حيث زار الملك سعود -رحمه الله- هذه المدرسة للاطلاع على الطريقة التي تعمل بها وقد أعجب بها وسارع إلى التبرع لها بمنزل والدته ليكون مقراً دائماً لهم بحي الظهيرة في مدينه الرياض، وبعد ذلك بعامين أصدر الملك فهد بن عبدالعزيز -رحمه الله- وكان وقتها وزيراً للمعارف قراراً وزارياً بتأسيس أول معهد للمكفوفين حتى يكون النواة الأولى لافتتاح معاهد التعليم الخاص والذي نص على ضم معهد النور الليلي بالرياض إلى الوزارة واعتباره معهداً نهارياً يسير وفقاً للمرحلة الابتدائية، واستمر دعم المعهد إلى وقتنا الحالي، كما كان للفتيات الكفيفات نصيبهن من الرعاية والاهتمام حيث تم افتتاح معهد النور للكفيفات العام 1384هـ، تحت إشراف الإدارة العامة لتعليم البنات، تحت إشراف معلمات من ذوات الاختصاص، وتوالى بعد ذلك افتتاح معاهد للمكفوفين والمكفوفات في مختلف مناطق المملكة.
جمعية المعوقين
وبالنسبة إلى ذوي الإعاقة فقد تم تأسيس جمعية تهتم بهم وتتولى رعايتهم تحت مسمى جمعية الأطفال المعوقين، والتي يرأس مجلس إدارتها صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، وهي منظمة خيرية غير حكومية تأسست في العام 1403هـ، وتعنى بالأطفال المعوقين في المملكة، وتعد الجمعية واحدة من أكبر المؤسسات الخيرية المتخصصة في رعاية الأطفال المعوقين في الشرق الأوسط، وقد تأسست بغرض تقديم الرعاية المتكاملة المجانية لذوي الإعاقة المبكرة من سن الميلاد وحتى سن الثانية عشرة، كما تم تأسيس مركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة على يد الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز في العام 1990م، لكي يتكامل مع جمعية الأطفال المعوقين، وتم تأسيس المركز لكي يلبي حاجات الأفراد المعوقين خارج نطاق الجمعية، وبعد الدعم الكبير من قبل أعضائه المؤسسين فقد حقق المركز الاستقلال عن الجمعية لكي يزيد من أبحاثه، وتتلخص رؤية المركز في تحقيق الاعتراف به للتميز في مجال أبحاث الإعاقة على الصعيد الدولي، وتتلخص أعماله في تنفيذ الأبحاث العلمية في مجالات الإعاقة وتوفير كافة المستلزمات لذلك، وقد حققت جمعية الأطفال المعوقين الكثير من الإنجازات وقدمت العديد من الخدمات للمستفيدين من خدماتها بعمل دؤوب من أمين عام الجمعية عوض الغامدي، ومساعد أمين عام الجمعية للعلاقات العامة والإعلام وتنمية الموارد المالية خالد الفهيد بمتابعة سمو رئيس مجلس إدارتها.
رؤية تربوية
وبات لذوي الاحتياجات الخاصة حقوقهم التي يتمتعون بها كغيرهم من الأسوياء حيث كفل لهم النظام الأحقية في التعليم والعلاج والعمل، وبالفعل فقد قامت وزارة التعليم بأسلوب دمج طلاب التربية الخاصة مع أقرانهم في التعليم العام بشكل رسمي في مطلع العام 1416/ 1417هـ، حيث تم دمج الطلاب والطالبات ذوي الإعاقة من فئة الصم والمكفوفين والفكرية والتوحديين، وكذلك ذوي صعوبات التعلم والموهوبين وغيرهم في مدارس التعليم العام، مع أقرانهم الطلاب والطالبات الأسوياء، في تجربة فريدة، ورؤية تربوية ناضجة تمهد لإعداد ذوي الإعاقة أصحاب الفكر والإمكانات العالية للعمل في المجتمع، عكس ما كان معمولاً به سابقاً من الإهمال إلى المراكز والمعاهد الداخلية، ومن ثم إلى المدارس النهارية والفصول الخاصة لكل فئة من فئات الإعاقة بنظام اليوم الكامل أو الجزئي، والذي أثبت فشلة تربوياً وأكاديمياً واجتماعياً ونفسياً، مما دعا المتخصصين والمهتمين في تربية وتأهيل المعوقين على مستوى دول العالم، إلى المطالبة بضرورة توفير أفضل أساليب الرعاية التربوية والمهنية للمعوقين مع أقرانهم العاديين في المدرسة، معتبرينها الحاضنة الرئيسة لرعاية التلاميذ، والبيئة الطبيعية التي يمكن للطلاب والطالبات ذوي الإعاقة والعاديين أن ينموا فيها معاً على حد سواء، ومن الاهتمام أيضاً بذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة فقد تم تنظيم تقديم المعونات اللازمة لهم شهرياً من الضمان الاجتماعي كل حسب إعاقته، إضافةً إلى مساعدتهم في الحصول على وظائف تناسب قدراتهم في القطاع الحكومي، وكذلك تشجيع القطاع الخاص في توظيفهم باحتساب كل فرد منهم بأربعة موظفين في احتساب "السعودة" من خلال برنامج "نطاقات"، كما تم العمل على إصدار بطاقات لذوي الإعاقة تمكنهم من الحصول على تخفيضات تصل إلى 50 % في عدد من القطاعات كالطيران وغيرها، إلى جانب تخصيص مواقف خاصة بهم عند المساجد والدوائر الحكومية والمرافق العامة كالمستشفيات والأسواق التجارية وقصور الأفراح والفنادق وغيرها.
from جريدة الرياض >https://ift.tt/2pSPQnH
via IFTTT
تعليقات
إرسال تعليق