توثيق المناسبات.. من الفزعة إلى التخصص

كثيرة هي لحظات الفرح والسعادة في حياتنا، ومع مرور الأيام تبقى ذكرى جميلة عشناها في هناء وسرور، وقد جبل كثيرون على توثيق هذه اللحظات الجميلة منذ أن ظهرت الاختراعات الحديثة وعرفت طريقها إلى المجتمعات، ولعل أول هذه الاختراعات صناعة الكاميرا، التي حفظت عديدا من اللحظات السعيدة في شتى بقاع العالم منذ عقود من الزمن، فالصورة كانت ولا تزال أجمل توثيق لأي حدث سعيد، فهي تبقيه عالقاً في الأذهان على مر الأزمان، فكلما نظر المرء إلى الصورة التي توثق الحدث، فإنه على الفور يسترجع تلك اللحظات الجميلة بكل تفاصيلها، وعلى الرغم من أن اكتشاف كاميرا التصوير كان منذ أكثر من قرن ونصف تقريباً، إلاّ أن استخدامها للتوثيق في بلادنا لم يستخدم إلاّ أخيراً، وتحديداً في التسعينات الهجرية، ولعل السبب في ذلك أن الناس لم يكونوا يعيرون ذلك اهتماماً، إضافةً إلى قلة انتشارها بين الناس، ولكن قلة من المثقفين وطلاب العلم بدأت تظهر عليهم بوادر التوثيق بالكاميرا، الذين بفضلهم تم توثيق عديد من الأحداث المهمة، وقد جرت العادة في إقامة المناسبات - خصوصاً الزواجات - أن يحضر أحد المهتمين بالتصوير سواء من أقارب أو أصدقاء العروسين ممن يملك كاميرا في ذلك الوقت، فيقوم بتصوير العريس وبعض الحضور، وبعد فترة من الزمن يقوم بإهدائها إلى العريس؛ ليتذكر فرحة ليلة العمر، وبعد أن انتشر التصوير للزواجات وغيرها من المناسبات، ونظراً لقلة كاميرات التصوير وقلة المهتمين باقتنائها قديماً، فقد كان البعض يحرص على توثيق المناسبة، وذلك باستعارة الكاميرا من أحد الأصدقاء والمعارف ليقوم بإعطائها لمن يقوم بالتصوير من إخوته وأقاربه، أو قد يطلب من صاحب الكاميرا أن يحضر المناسبة ويوثقها، فقد كانت ثقافة الاستعارة في جيل الأمس دارجة، فالبعض يستعير «المشلح» ليلبسه ليلة الفرح؛ ليوفر قيمة شراء مشلح بآلاف الريالات من أجل ليلة واحدة، كما كان البعض يستعير سيارة أحد أصدقائه أو أقاربه الفارهة؛ ليقل بها العروس إلى بيته، وغيرها من الأشياء التي كانت تستعار في مثل هذه المناسبة.

وتبدل الحال بعد تطور التصوير، وظهور تصوير الأفلام -الفيديو- والكاميرات المتطورة -الديجيتال-، التي لا تستدعي التحميض، وإنما يتم حفظ الصور في ذاكرة يمكن الرجوع إليها بتشغيلها بالكمبيوتر، وأخيراً بعد ظهور كاميرا الهاتف الجوال صار التوثيق أسهل من ذي قبل، فالكل يصور، ومن ثم يحفظ ما تم تصويره، والبعض الآخر يصور عن طريق «السناب شات»، ويرسلها على الفور لترى المناسبة وكأنك أحد حضورها، ولولع الناس في أيامنا هذه بالتوثيق لأي حدث جميل - خصوصاً الزواجات - فقد بات التعاقد مع مصور محترف أمراً ضرورياً؛ ليلتقط صوراً احترافية تشمل كل فقرات الحفل منذ حضور المدعوين والعريس وجميع الضيوف، وذلك عن طريق التقاط الصور «الفوتوغرافية» أو الفيديو.

مصطلح كاميرا

وقبل الحديث عن التصوير بالكاميرا وبدايته، لا بد أن نشير إلى أن مصطلح «كاميرا» في اللغات الأوروبية أتى من العبارة العربية «qumrah» (بالعربية: قُمرَة)، التي تعني المكان المظلم المغلق، وهي ترجمة لـ»الغرفة المظلمة» التي استخدمها ابن الهيثم في تجاربه البصرية، والتي دخلت اللغات الأجنبية بمعنى غرفة بالتحريف الآتي «camera»، وظلت قيد الاستخدام بهذا المعنى على مدى قرون، حتى اختراع «قمرة» التصوير، فشاع استخدامها لوصف الآلة المعروفة، أمّا بداية اختراع كاميرا التصوير، فإن «لويس داجير» يعتبر مخترع آلة التصوير الشمسي الحاملة اسمه «الداجيروتايب»، فهو عالم ومصور للمناظر الطبيعية، ومن أعماله أيضاً أنه قام باختراع «الديوراما»، وهي مشهد ثلاثي الأبعاد مصغر أو بالحجم الطبيعي، تكون فيه الأشكال والمناظر الطبيعية غير مرتبة بشكل طبيعي مقابل خلفية مرسومة أو مشهد تمت إعادة إنتاجه على قطعة قماش شفافة، ويكون الضوء مشعاً من خلفها للحصول على تغيرات تتم رؤيتها، وكانت بداية انتشار كاميرات التصوير في أوروبا وأمريكا، حيث استعان بها الصحافيون والرحالة لتوثيق الأحداث، ولعل أول صورة التقطت في الجزيرة العربية هي صورة اللواء «محمد صادق باشا»، وهو لواء بالجيش المصري، فخلال بعثته إلى باريس اندهش من فن التصوير الفوتوغرافي الذي كان يشهد حينها قفزات نوعية في التقاط ومعالجة الصور عبر جهاز «الكاميرا» الذي كان حديثاً في ذلك الوقت، فأدت دهشته هذه إلى افتتانه بالكاميرا، وقد زار الحرمين الشريفين، فالتقط صورة للحرم المكي عام 1277هـ؛ أي منذ (162) عاماً مضت، وبعد ذلك توالت وفود الرحالة والمستكشفين إلينا يحملون معهم كاميراتهم البسيطة، فالتقطوا معظم معالم المملكة ووثقوها، حيث ما زالت تلك الصور بجمالها تحكي تاريخ تلك الحقبة من الزمن الجميل، وبعد توافد شركات البترول جلبت معها المهندسين والمصورين، وشيئاً فشيئاً عرف الناس التصوير باحتكاكهم بهؤلاء الأجانب، ثم انفتح الباب على مصراعيه باستيراد تلك الكاميرات.

استديو التصوير

وكان التصوير الفوتوغرافي في البداية متوافرا في الاستديوهات، التي تلبي رغبة الزبائن في التقاط صور شخصية من أجل استخراج حفيظة النفوس التي كانت تسمى «التابعية»، وهي بمنزلة بطاقة الأحوال- الهوية الوطنية-، أو لاستخراج جواز للسفر، ومن ثم ومع تقدم الزمن وتطور آلات التصوير باتت هذه الاستديوهات تصور صوراً تذكارية للزبون سواء بمفرده أو مع من يرغب كذكرى، ثم وفرت تلك الاستديوهات كاميرات فورية للتصوير، تسمح لحاملها بالتقاط الصورة بيده، ومن ثم تخرج الصورة ورقة بيضاء، فيتم تحريكها في الهواء عدة ثوان، ومن ثم تظهر معالم الصورة بوضوح كبير، وكان فيلم الكاميرا يضم عشر صور فقط، وأخيراً ظهرت الكاميرات التي يوضع بداخلها فيلم يلتقط (24) أو (36) صورة، ولكن هذه الكاميرات ليست بخاصية التصوير الفوري، إذ لا بد من اكتمال التصوير للفيلم ومن ثم إخراجه والذهاب به إلى الاستديو لـ»تحميضه»، وقد يستغرق ذلك يوما أو يومين حسب الإقبال والازدحام على الاستديو، ومع انتشار محال التصوير صار بينها تنافس «تحميض» الأفلام خلال 20 دقيقة فقط، مع تخفيضات في أسعار التحميض، وإهداء كل زبون «ألبوما» مجاناً ليضع فيه الصور الخاصة به.

تطور تكنولوجي

ومع ظهور التصوير الرقمي تراجع الإقبال على استديوهات التصوير؛ إذ صار بإمكان كل شخص شراء كاميرا «ديجيتال» وتصوير كم هائل من الصور ربما بالمئات، واختيار ما يرغب في طباعته عن طريق شراء طابعة خاصة به من أحد محال بيع الأجهزة الإلكترونية، وأخيراً وبعد ظهور أجهزة الهاتف النقال المزود بكاميرا مع التطوُّر التّكنولوجي خاصةً في مجال الإلكترونيّات، نجح العلماء في وضع آلة التّصوير على رُقاقة في بداية التّسعينات من القرن العشرين، وكان ذلك على يد المُهندس والفيزيائي «إيريك فوسَم» وفريقه، وقد كانّ هذا الاختراع هو بداية إضافة آلات التّصوير إلى اللوح الإلكتروني للهاتف، وفي عام 2000م ظهر أوّل هاتف محمول يحتوي على آلة تصوير في كوريا الجنوبيّة من صِناعة شركة «سامسونج»، ويحتوي على آلة تصوير تلتقط صوراً ذات دقة جيدة، ويستطيع تخزين (20) صورة، ثم ظلت الهواتف المحمولة تتطوَّر بَعد العقد الأوّل من القرن الواحِد والعشرين، فقد أصبَحَت أكثر دِقّة ووضوحاً، كما أنّها حصلت على عديد من الميّزات، كميزة اكتشاف الوجه، وخاصيّتي التّكبير والتّصغير، كما ازداد عدد «البيكسلات» للإنش الواحد بشكلٍ كبير، ما جعل الصور الرقمية عالية الدقة والوضوح، وبذلك تراجع الإقبال بشكل كبير على شراء كاميرات التصوير، واقتصر شراؤها على المحترفين في مجال التصوير.

احتراف التصوير

ونظراً للإقبال الشديد على توثيق لحظات الفرح كالاحتفال بالنجاح أو التخرج أو الزواج وهو أكثرها، فقد كثر من يقدم تلك الخدمة من أصحاب الاستديوهات، وذلك بمقابل مالي حسب الاتفاق ومدة الحفل وكمية الصور، كما انتشر بين الشباب ممن احترف التصوير لهذه الغاية التي باتت تدر دخلاً جيداً لهم يعينهم على متطلبات الحياة، وصار الناس يتسابقون في توثيق لحظات أفراحهم بالتصوير بكاميرا التصوير وكاميرا الفيديو، حيث يستطيع العريس أن يتفقد الصور بعد الزواج، ويشاهد مدى الحضور الكبير الذي حظي به حفل الزواج، كما يستطلع الحضور ويتفقد من غاب، وفي المقابل فإن توثيق لحظات الفرح للنساء له شأن آخر، فقد يبرز عديد من محترفات التصوير اللواتي تقدمن خدمة تصوير وتوثيق حفلات الزواج خصوصاً مقابل مبلغ مالي كبير، ما جعل من توثيق الزواجات أمراً ضرورياً يحرص عليه العروسان؛ ليستعيدا به الذكريات بعد عقود من الزمن، وقد ظهر من يقدم خدمة التوثيق كإعانة للعريس، حيث يتعاقد مع أحد هواة التصوير لتوثيق الزواج، إذ باتت تقدم مثلها كمثل الإعانات الأخرى التي يقدمها البعض كالإقامة في فندق أو شراء تذاكر سفر أو ساعات فاخرة للعروسين، بينما يفضل البعض دفعها نقدية ليستفيد منها العريس فيما يحتاج إليه، ولكن الملاحظ في أغلب المناسبات - خصوصاً مناسبات الزواج - كثرة المصورين بأجهزتهم النقالة؛ حيث يلتفون حول العريس لالتقاط صور جماعية أو صور «سيلفي»، ما أفقد التصوير أهميته، حيث سبّب ذلك ازدحاماً حول العريس، وأفسد على الحضور فرصة الجلوس مع العريس وأقاربه لتقديم التهاني وتبادل الأحاديث الودية.

كاميرا زمان وثّقت أجمل ليالي العمر
تصوير زواج الماضي الجميل
فنون شعبية صورتها كاميرا هاو
تحميض الأفلام كانت تحمل صاحبها عبئاً كبيراً
برنامج سناب شات أسهم في تصوير الأفراح حالياً
كاميرات «الديجيتال» أغنت عن الكاميرات القديمة
استديوهات التصوير مازالت تستقبل زبائنها


from جريدة الرياض >https://ift.tt/2wyY6Qz
via IFTTT

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هاشم النعمي.. المؤرخ والقاضي والأديب

"هيئة الإحصاء": ارتفاع الصادراتِ السلعيَّة للمملكة خلال شهر فبراير 2022م بنسبة 64.7%