«اختر صديقك»..!

يبقى للصداقة دور كبير ومهم في تعزيز الاستقرار النفسي لأي شخص، بل إن العلاقة الحميمة بين الأصدقاء تكون في أحيان كثيرة المنقذ الحقيقي من الأزمات.

وتُبنى علاقة الصداقة على الفهم المتبادل بين الطرفين، والحرص على الولاء والمشاركة والتفاعل والمساندة، وهي من العوامل التي تساعد الفرد على الاستقرار النفسي؛ لما لها من آثار إيجابية نفسية واجتماعية، فهي توفر لصاحبها التشجيع، وتدعم ثقته بنفسه، وتشكّل تقويماً إيجابياً للذات، بل تسهم في تنمية مهارات الأفراد، وتطوير قدراتهم الاجتماعية في بناء العلاقات، وتبادل الأفكار، والقدرة على بناء الحوار، والإفصاح عن المشاعر. وللصداقة فوائد نفسية في خفض مشاعر الوحدة والعزلة، والشعور بالأمان والمسؤولية والراحة والمشاركة في الميول والاتجاهات، فهي نوع من الإرشاد التوافقي الذي يساعد على تخفيف الصغوط والتفريغ النفسي.

معيار حقيقي

قال د.خالد العتيبي- اختصاصي نفسي-: الإنسان كائن اجتماعي متفاعل بطبيعته يؤثر ويتأثر، يقول أحدهم: «أفضل شيء فعله صديقي هو أنه تقبلني كما أنا»، هذه الجملة هي المعيار الحقيقي للصداقة بقبول الصديق كما هو وبطبيعته لا لشيء أو مصلحة تنقضي، وللصداقة تأثير إيجابي في حياة الإنسان، وتعزيز واستقرار صحته النفسية، مضيفاً أنه تبين دراسة أسترالية أجريت في مركز أبحاث الشيخوخة في جامعة فلندرز بعد مراقبة 1500 شخص من كبار السن لأكثر من عشرة أعوام، وجد أن الأشخاص الذين تكون دائرة أصدقائهم أوسع تزيد أطوال أعمارهم 22 في المئة أكثر من الأشخاص الذين دائرة أصدقائهم أصغر، كذلك أوضح الباحثون أن الأصدقاء الجيدين يمكنهم منع السلوكات غير الصحية مثل التدخين وغيره، كما أنه يمكن للأصدقاء مكافحة الاكتئا،ب وتعزيز احترام الذات، وتقديم الدعم.

وأشار إلى أنه تبين من خلال الدراسة، أن العلاقات مع الأولاد والأقارب لم تؤثر في طول العمر، كما بيّن لين جييلز أحد الباحثين الأربعة الذين أجروا الدراسة، أن العلاقات الأسرية مهمة، ولكن يبدو أن لها تأثيرا قليلا في متوسط عمر الإنسان، مشيراً إلى أن شيلدون كوهين أستاذ علم النفس في جامعة كارنيجي في بتسبيرج يقول: إن الدعم الاجتماعي القوي يعمل على مساعدة الناس في التعامل مع الضغوط، ويرى أن الأشخاص الذين لديهم دائرة كبيرة من الأصدقاء تكون لديهم زيادة في احترام الذات، ويشعرون بأنهم يسيطرون على حياتهم بشكل أفضل.

أسمى الروابط

وأوضحت ابتسام فهد الحيان- اختصاصية نفسية- أنه يصعب على النفس البشرية أن تعيش وحيدة معتزلة الوجود ومكتفية بذاتها؛ لأن هناك أسس ثبات الروح إلى أخرى تألفها وتشاركها وفق معايير ذاتية بين الشخصيتين، مضيفةً أن الصداقة من أسمى روابط الاتصال بين الأفراد، وهي علاقة إنسانية مميزة، تقوم على التجاذب المتبادل والمشاعر الوجدانية بلا مصالح مرجوة سوى الانسجام والائتلاف، مبينةً أن مستوى التواصل الحميمي في الصداقة هو سنام هذه العلاقة السامية، وبدوره يقوم بعمليات نفسية خفية جداً، تتسم بسعادة الفرد واطمئنانه بوجود كينونة الصديق، متمثلة في خفض مشاعر الوحدة بوجود آخر مماثل له، بوجود من يألفه ويفهمه ويدرك ما به، إضافةً إلى دعم المشاعر الإيجابية السارة، وخفض التوتر، شاملاً بذلك الإفصاح عن الذات، والتعبير عن مكنونات النفس بلا تحفظ، ذاكرةً أن التوافق في الميول والاتجاهات يوفر كثيرا من أطر السعادة التي يكاد البعض يبحث عنها هذه الأيام، وكذلك الانسجام وفق الهوايات، والرغبات والتطلعات تكسو الذات الداخلية لمسة فريدة جداً من الأمان النفسي، وتدفع الفرد إلى أعلى قمم الاتزان الروحي ومن ثم الثقة والتمكن إلى الإنجاز.

مرآة صادقة

وأشارت ابتسام الحيان إلى أن المساندة النفسية، وإيجاد السند الروحي وقت الأزمات والمصاعب، والتغلب عليها، يشعر الفرد بثباته وعدم انكساره، بل حينما يجد صديقه بجانبه يتعلم منه كثيرا في الصبر والمثابرة وعلو الهمة، وهذا بدوره يغنيه عن استشارات نفسية عديدة، مضيفةً أنه يمكننا القول: إن الصديق الحقيقي هو المرآة الصادقة للفرد بوجهة نظر مختلفة وناضجة، وكما قال أرسطو: «الصداقة روح واحدة تسري في جسدين»، مبينةً أن العلاقة في الصداقة علاقة مشتركة وليست تفاضلية أو متطابقة في الصفات؛ لأن هذا مستحيل بالطبع، ولكن تغذية الجوانب المختلفة لدى كلا الطرفين، والشعور بالسلام النفسي وروح الهوية المتوحدة مطلوب جداً؛ للتنعم بجمال أريحية الصديق، مؤكدةً أن اختيار الصديق يجب أن يكون مبنيا على الائتلاف والتلاحم الروحي، بعيداً عن الملبيات المادية أو الاجتماعية، حتى يضيء الجوهر الداخلي، ويشع بريقه لأعوام -بإذن الله-.

مساندة ودعم

وتحدث د.أحمد بن عبدالرحمن البار- أستاذ الخدمة الاجتماعية في جامعة الإمام ومستشار أسري- قائلاً: لا بد من المساندة والدعم النفسي والاجتماعي لمن يمر بأزمة وصدمة، فمن منّا لم يمر بخبرات جعلته يميل إلى العزلة ويختار الصمت حتى مع أقرب الناس له؟ لا بسبب توتر العلاقة بمن يرتبط بهم، ولكن بسبب أحداث ضاغطة قلّلت من درجة إقبال من يهتم بأمرهم، وزادت من مشاعرهم السلبية تجاه أنفسهم ومحيطهم والمجتمع، من منّا لاحظ تغيرا كهذا طرأ على من يعني له من الأقارب والأصدقاء، ووقف عاجزاً لا يعلم ماذا عساه أن يقدم حتى يعيد الشخص إلى سابق عهده؟، ولسان حالهم يقول: لا أعرف كيف أساعدهم على ما هم فيه، ليس لدي تفسير عن سبب بقائهم في الماضي برغم أن الحدث -الأزمة أو الصدمة- مضى وانتهى، هل لكون الناجي –ربما الصديق أو القريب- قلّما يتحدث عمّا حدث معه، لدرجة أنهم لا يستطيعون التنبؤ لردة فعل الشخص بما في ذلك الأمور البسيطة نتيجة تقلب مزاجهم وعدم بقائهم على حال؟ وهنا تختلط مشاعر القلق والخوف على الشخص مع مشاعر الغضب والإحباط والشعور بالذنب لمن هم مهتمون بأمر الشخص الناجي من أزمة أو صدمة حدثت له، وقد يزداد الأمر سوءاً بفقد الحميمية (loss of intimacy)، كون المحيطين بالشخص لم يصبحوا قريبين من الناجي كالسابق، والجواب لمثل من يمر بهكذا خبرات مع من يعنون له سواء من أقرباء أو أصدقاء ألاّ يفقد الأمل، ويحاول الفهم سواء من الشخص نفسه أو أسرته عن سبب التغير في السلوك والمزاج والتفكير والمشاعر، ويبدأ بتشجيعه على طلب المساعدة، ويحرص على تجنب إلقاء اللوم أو الغضب؛ لأن الشخص هو ذاته لا يعي لِمَ هو كذلك.

وأشار إلى أن الصبر وتقديم الدعم والمساندة النفسية والاجتماعية بصورة لا مبالغ فيها، لا تشعر الشخص بالضعف والتعاطف والحساسية، كما يتم تفهم ردات أفعال الفرد وربطها بالمحفزات والمثيرات سواء كانت في ذكريات، أخبار، أشخاص، أشياء، ومحاولة تبصيره بالعلاقة بينها وبين الشعور الذي يشعر به أو ردة الفعل التي ظهرت عليه، باختصار ليس هناك مثل الوعي والحب والاحتواء لمثل هذه الحالات واليقين بأنها مؤقتة متى ما تم ربط الشخص الناجي بمعالج جيد وتزامن ذلك مع تقديم الدعم والمساندة من قبل المحيطين بالشخص.

تلاحم وتقارب

وقالت د.سحر رجب- مستشار نفسي وأسري ومدرب ومستشار دولي معتمد-: إن الصداقة يمكنها أن تتحول إلى حب، لكن الحب لا يمكن أن يتحول إلى صداقة، لذلك الصدق في الصداقة بمعناها الحقيقي هو الذي يدوم ويبقى، الصداقة حين أحتاجك أجدك جواري تمسح دمعتي وتبعد أحزاني بابتسامة، لا أحتاج إلى صديق عندما ينشغل يبتعد، وعندما يحتاجني يقترب، الصداقة أن تتفرغ مهما كان انشغالك لتسأل عني، وتبعث السرور إلى قلبي وصدري كل وقت وحين، الصداقة تلاحم وتقارب، أن تكون مرآتي الحقيقية، لذلك نجد الحياة لا تقوم على طرف واحد، ولكنها لا تتوقف أبداً إذا تم الخذلان من أي طرف، فلا بد على الزوجة أن تكون كالصديق مع زوجها ليسكن إليها عند أي خطأ أو صواب، وما أروع أن يكون في حياتك قلب يفتش عن كل ما يبهجك، فقط ليرى ثغرك باسماً، هنا تكمن الصداقة الحقة، مضيفةً: «اعتبر نفسك وأصدقاءك الحقيقيين أنكم في سفينة واحدة، لذلك عندما تكون معهم اغتنم الإنصات لاصطياد الخبرات والثقافات والفوائد الجديدة لديهم، لا تضع معايير مثالية صارمة للحكم على الآخرين، كونهم بشراً، فمن الطبيعي أن يخطئوا ويصيبوا».

فهم متبادل

وأوضحت إيمان أحمد الزبيري -استشارية أسرية وزوجية وتربوية- أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لا يمكنه أن يعيش بمفرده، ويحتاج إلى شخص يحبه ويطمئن لمحادثته ويرتاح للقائه، هذا الإنسان الذي تربطه به علاقة وئام وانسجام وتوافق هو الصديق، فعلاقة الصداقة التي تقوم على الفهم المتبادل والحرص على الولاء والمشاركة والتفاعل والمساندة لها دور كبير في إشباع الحاجات النفسية والتوافق النفسي لدى الفرد، وهي من أهم العلاقات الاجتماعية التي يرتبط بها الإنسان، ومن العوامل التي تساعده على الاستقرار النفسي، لما لها من آثار إيجابية نفسية واجتماعية على الفرد، فهي توفر لصاحبها التشجيع، وتدعم ثقته بنفسه، وتشكّل تقويماً إيجابياً للذات، والترويح عن النفس، والتعاون وتبادل المساعدة والخبرات، بل تسهم في تنمية مهارات الأفراد وتطوير قدراتهم الاجتماعية في بناء العلاقات وتبادل الأفكار والقدرة على بناء الحوار والإفصاح عن المشاعر، مبينةً أن للصداقة فوائد نفسية في خفض مشاعر الوحدة والعزلة، والشعور بالأمان والمسؤولية والراحة والمشاركة في الميول والاتجاهات والضبط الاجتماعي وإدراك الواقع بإيجابية، فهي نوع من الإرشاد التوافقي، وتساعد الصديق على تخفيف الصغوط والتفريغ النفسي.

تخفيف الضغوط

وذكرت إيمان الزبيري أن انعدام العلاقات الاجتماعية يرتبط بظهور الكآبة والعزلة والتدهور النفسي والعقلي والاجتماعي، فالعلاقات الحميمية بين الأصدقاء تساعد على التخفيف من بعض الأمراض الصحية والنفسية التي قد تؤثر في الفرد، فهي تخفف من التوتر والضغوط، وتشعره بأن هناك شخصا آخر يشاركه فرحه وحزنه ونجاحه ويدعمه ويسنده، مضيفةً أن للصداقة أهمية كبيرة للفرد والمجتمع. وقد حرص عليها ديننا الحنيف في توطيد أواصر المحبة والعلاقات الحميمية الصادقة النقية الطاهرة بروح الإيمان والصدق، ولنا مثال يحتذى به في الصداقة والأثر النفسي الذي يتركه الصديق وأهميته في حياة كل إنسان، وكيفية معاملته وقت الأزمات والشدة ووقت الفرح، وأكبر مثال لأعظم صداقة في التاريخ تبين لنا أسمى وأجمل المعاني هي العلاقة القوية والمتينة التي كانت بين سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وسيدنا أبوبكر الصديق، والأثر النفسي الذي يتركه كلاهما في الآخر، وهو ما يوضح لنا قيمة الصداقة الحقيقية.

د. خالد العتيبي
د. أحمد البار
د. سحر رجب


from جريدة الرياض >https://ift.tt/2LVcc1U
via IFTTT

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هاشم النعمي.. المؤرخ والقاضي والأديب

"هيئة الإحصاء": ارتفاع الصادراتِ السلعيَّة للمملكة خلال شهر فبراير 2022م بنسبة 64.7%