يعقوب الرشيد.. المؤرخ والراوية

يعقوب الرشيد الدغيثر شخصية عاشت وعاصرت وشاهدت الكثير من الأحداث والوقائع من القرن الماضي الهجري والميلادي وبالأخص بداية بناء المملكة العربية السعودية، بل عمل مع الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- في قصره بالمربع ثم الملك سعود -رحمه الله-، وقد جالست هذه الشخصية واستفدت منها ومن مروياتها عن أحداث وشخصيات في داخل المملكة وخارجها، فضلاً عن تجاربه الشخصية طيلة حياته، وكذلك آراؤه في الأحداث والأخبار التي شاهدها أو سمع عنها من أناس شاهدوها، وكان لديه ملكة وقدرة فائقة على التحليل للحدث أو التفسير لذاك الواقع التاريخي المعاصر أو القديم، وكنت أسجل أحياناً هذه الأحداث التي يرويها -رحمه الله-، وكان أحياناً يستطرد في المعلومة وأحياناً يوجز حسب توفرها ومعاصرته للحدث، باختصار كان موسوعي المعلومات.

ولد عام 1347هـ -1926م- وتعلم في المدارس الابتدائية والثانوية ورغب في التحصيل الأكثر وسافر إلى بيروت بلبنان وانضم في الجامعة الأميركية، ومن هنا عرف بيروت ولبنان وبالذات ما بعد الاستقلال، فهو خبير ومؤرخ وشاهد للبنان وأدباءها وساستها ومفكريها وأصحاب القلم والصحافة في لبنان، تخرج عام 1946م ونال شهادة «البكالوريوس» تخصص فيزياء ورياضيات، وكان رحمه الله يمتاز بالذكاء والفطنة وحضور البديهة والجواب السريع فهو قوي الحجة والمنطق وذو ثقافة موسوعية تاريخية حديثة.

ترجمة البريد

بدأ يعقوب الرشيد حياته الوظيفية مع الملك عبدالعزيز بقصور المربع بمدينة الرياض أواخر الأربعينات الميلادي نهاية الستينات الهجري، وكان في قسم الشعبة السياسية يترجم البريد الأجنبي مساعداً للمترجم الشهير بديوان الملك عبدالعزيز ماجد، ثم لمّا تولى الملك سعود الحكم استمر مترجماً في الديوان بالناصرية، ثم أصبح فيما بعد رابط الاتصال بين شركة بكتل الأميركية والقصور الملكية، وكان مقر الشركة بمطار الرياض القديم، ومن المهام التي تولاها في هذه المدة الزمنية أنه كلف بمرافقة ملك الأفغان عندما زار المملكة أوائل السبعينات الهجري عند عودته إلى كابل، كذلك في عام 1371هـ أو بعدها بقليل شكلت لجنة لتسجيل معالم مدينة الرياض قبل هدم السور وتوثيق بوابات المدينة القديمة مثل دروازة الثميري وبوابة دخنة، وتدوين كل ما يتعلق بالأسواق القديمة والسكك الصغيرة والشوارع الكبيرة والأبراج والقصور القديمة قبل قصر الحكم والمصمك، واستمر العمل مدة ليست بالقصيرة، وكان يعقوب الرشيد هو نائب اللجنة ورئيسها عبدالله بن حماد الشبيلي، والجدير بالذكر أن هذه اللجنة التي قامت بتكليف من الملك عبدالعزيز هي أول لجنة أثرية توثق معالم وآثار مدينة الرياض الصغيرة في ذاك الزمن، أي قبل سبعين عاماً تقريباً، وكان عمره في حدود الرابعة والعشرين خريفاً، ولعل هذا التوثيق محتفظ به لدى هيئة السياحة والآثار؛ لأنه النواة الأولى والعمل البكر في تسجيل هذه الآثار التي اندثر أكثرها مع التطور السريع لمدينة الرياض.

شركة الكهرباء

ومن الوظائف التي تولاها يعقوب الرشيد أنه كان من ضمن المديرين الأوائل لشركة الكهرباء لمدينة الرياض عند بداية التأسيس لهذه الشركة، وقد حكى لي بعض القصص عن بعض الأهالي الذين امتنعوا من دخول الكهرباء لمنازلهم بحجة أن العمال الذين يعملون ليسوا مسلمين، وحتى عندما جاءت بعض الفرق للمبيدات الحشرية لأول مرة في مدينة الرياض، وكان العاملون بها كذلك غير مسلمين، حيث امتنع البعض من دخولهم منزله، ويروي أنه عندما أمره الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- أن يرافق بعض الموظفين الأميركان إلى مدينة الخرج، واصطحب معه بعض الخويا امتنعوا من ركوب السيارة، بحجة أن هؤلاء الأميركان غير مسلمين، فرجع إلى الملك عبدالعزيز وأخبره فنهرهم الملك وقال هؤلاء أتوا لنستفيد من خبراتهم وعلمهم، كذلك من وظائفه أنه تشكلت لجنة أواخر الخمسينات الميلادي لتوزيع العمولات الصعبة بعد انخفاض الريـال السعودي، وكان يعقوب نائباً لرئيس اللجنة وقد سافر إلى أميركا في مهمة خاصة، خيث أرسله الملك سعود حينما كان ولياً للعهد.

وفي عهد الملك فيصل -رحمه الله- رشح يعقوب الرشيد أن يكون وكيلاً لوزارة الإعلام بعدما تقاعد عن العمل الحكومي واتجه إلى الأعمال الخاصة والتجارة، لكنه رغب في الاستمرار بالتجارة، واستمر -رحمه الله- ما بين قصور الناصرية وقصور الملك سعود وشركة بكتل الأميركية في مرحلة السبعينات الهجري، وكان يعرف معرفة جيدة أغلب الذين عملوا مع الملك عبدالعزيز من مستشارين ومترجمين وأخويا وجلساء.

رجال الملك

وكان يعقوب الرشيد -رحمه الله- يثني على المؤرخ والدبلوماسي المحنك فؤاد حمزة -رحمه الله- ويقول: إنه من أفضل وأحسن من عمل مع الملك عبدالعزيز، وكان ناصحاً ومخلصاً في مشورته وآرائه ومفاوضاته في وزارة الخارجية، وكان سفير الملك عبدالعزيز في تركيا وفرنسا وقام بمهام كبيرة في البلدان المجاورة واختاره الملك عبدالعزيز ليكون مستشاراً له ووثق به الملك عبدالعزيز فكان عند حسن ظن الملك وقام بالواجب وما فوق الواجب، وتوفي فجأة فكانت خسارة كبرى لهذه البلاد التي لم تر منه إلاّ الوفاء والصدق والأمانة، وممن كان يثني عليه يعقوب كذلك الأستاذ والرحالة والمؤرخ عبدالله فلبي -رحمه الله- حيث قال: كانت حياته على أربع مراحل المرحلة الأولى هي العسكرية، والمرحلة الثانية السياسية والمرحلة الثالثة العلمية والمرحلة الرابعة هي التجارية، وكان يسكن في منزل طيني بحي شلقا بالرياض، وقد زرته مرات وعندما أتى ابنه كيم لزيارة والده رافقته، وكان يجلس وأمامه الآلة الكاتبة يكتب في أحد مؤلفاته وكان صديقًا للملك عبدالعزيز ويحضر الكثير من جلساته وهو صريح وفي الوقت نفسه نظيف، وقد خسر في تجارته ولم يفلح لأنه لم يخلق تاجراً بل كاتباً مؤرخاً باحثًا، وعندما كان في بيروت عام 1960م دعتهم السفارة السعودية في بيروت للصلاة عليه ودفن في مقابر المسلمين وصلوا عليه في مسجد العمري في بيروت، وكان يسكن في فندق نورمندي، ومن الذين يعرفهم ممن عمل مع الملك عبدالعزيز خالد القرقني ليبي من أهل طرابلس، حيث كناه الملك عبدالعزيز أبو الوليد وهو رجل طيب، وكذلك السعداوي ليبي واسمه بشير، وهو من المستشارين للملك، وعبدالله الدملوجي وهو عراقي الأصل من الموصل، حيث قال يعقوب: إنني لم أشاهده فقد ترك العمل مع الملك عبدالعزيز منذ مدة مبكرة، لكنه كما سمعت يدافع عن المملكة بعد تركه للعمل ومستواه عالٍ في التعليم ومتخرج في جامعة السربون بفرنسا وله خبرة قوية بالقانون الدولي، وقد عمل مع الملك عبدالعزيز منذ عام 1334هـ حتى عام 1342هـ هذه بعض الأمثلة للذين عملوا مع الملك عبدالعزيز والقائمة كثيرة وكبيرة.

كاتب صحفي

من جانب آخر يعد يعقوب الرشيد الدغيثر كاتباً صحفياً، وقد كتب مجموعة من المقالات ذات الطابع الوطني والجريء والصريح وأحياناً القاسي، فقد كتب مقالات صارخة وقوية وكان خصماً شرساً للناصرية، وقد كتب مقالات في هذا الشأن، ولم يكتف بالصحف المحلية بل تعداها إلى الصحف العربية باسم مستعار بعنوان كاتب عربي وبالذات في الصحف اللبنانية، وكانت علاقته وشيجة برئيس تحرير جريدة الحياة كامل مروة -رحمه الله-، وكتب في الحياة مقالات، ويخبرني أستاذنا يعقوب أنه هو الذي أقنع كامل مروة بزيارة المملكة، وفعلاً اقتنع وزار المملكة وقابل الملك فيصل -رحمه الله- وأكد ذلك اللقاء د.محمد الزلفة في مقاله بجريدة الجزيرة في رثائه، ويعقوب الرشيد ذو خبرة عميقة برجال لبنان والمفكرين فيها ويلتقي بهم كثيراً في بيروت ويلتقي كذلك بمجموعة من النخبة من العرب من أهل الصحافة والفكر، أمثال الكاتب قدري قلعجي والشيخ عبدالله العلايلي والكاتب الشهير عبدالله القصيمي وقد أقنع الشيخ عبدالرحمن بن سعدي أن يقابل عبدالله القصيمي في بيروت، وفعلاً حصل اللقاء وتبادلا الحديث العام بدون التطرق إلى النواحي الدينية، وجالس ببيروت المفتي أمين الحسيني عدة مرات وروى له بعضاً من قصصه عندما كان في مصر أيام الملكية وما بعد الثورة.

هذا إلى معرفة يعقوب الرشيد بالأحزاب التي نشأت ما بعد الحرب العالمية الثانية في لبنان، مثل حزب البعث، فقد زار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية متجولاً فيها وشاهد مشروع المارشال وذلك بعد تخرجه من الجامعة الأميركية، ويحدثني أنه طلب أن ينشئ صحيفة يومية أبان نظام المؤسسات الصحفية وجعل أعضاءها من مختلف مناطق المملكة، لكن لم يوافق على طلبه في إصدار جريدة ووافقوا له على إصدار مجلة أيام وزارة جميل الحجيلان لوزارة الإعلام.

قوافل العقيلات

يُذكر أن الشيخ يعقوب الرشيد -رحمه الله- من أبناء العقيلات حيث أن أباه وجده وأسرة الدغيثر في عنيزة والرس ممن كانوا في قوافل العقيلات التي جابت بلاد العراق والشام وفلسطين ومصر، بل إنه من مؤرخي العقيلات الذي شاهد الكثير منهم ويعرف شيوخها، وقد سافر إلى العراق والشام وروى عنهم بعض أخبارهم ومواقفهم وكفاحهم والظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي عاصروها، وقد كتب مقالة في جريدة الجزيرة عن أحد أعيان العقيلات وهو قائد الهجانة في معركة ميسلون ناصر الدغيثر بعنوان بطل معركة ميسلون ابن دغيثر، كشف فيه أن القائد الحقيقي لهذه المعركة الشهيرة بين الجيش الفرنسي والهجانة من العقيلات النجديين التي حدثت عام 1920م، وأن الهجانة كان لهم دور فعّال والبلاء الحسن والمقاومة الشرسة ضد الجيش الفرنسي لولا تدخل الطيران الفرنسي في بيروت وانسحاب الهجانة من المعركة بأقل الخسائر في الأرواح، ورغم ظروفه الصحية في أيامه الأخيرة إلاّ أنه كتب هذا المقال ومقالات أخرى، وآخرها مقال عن الملك عبدالعزيز في الكويت وكانت سنواته الأخيرة معتكفاً في منزله لكن بعض أصدقائه يتواصلون معه بالهاتف ويتصل عليهم هو أيضاً ويتحدث معهم طويلاً، كنت أزوره -رحمه الله- في منزله كثيراً وكان يعدني أحد أبنائه، ولقيت منه كل الحفاوة والتكريم والمواقف النبيلة، رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى.

توفي بتاريخ الثامن والعشرين من شهر صفر لعام ألف وأربعمائة وست وثلاثين للهجرة وصلى عليه صلاة الجنازة في مسجد الملك خالد ودفن في مقبرة أم الحمام جعل الله قبره روضة من رياض الجنة.

عمل مترجماً في الديوان في الناصرية
يعقوب الرشيد الدغيثر
تولى مهمة نائب رئيس لجنة تسجيل معالم مدينة الرياض
أثنى على الدبلوماسي فؤاد حمزة
يعتبر الرشيد من مؤرخي العقيلات


from جريدة الرياض >https://ift.tt/2Nnq6hf
via IFTTT

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

هاشم النعمي.. المؤرخ والقاضي والأديب

بعد اقتحامها الكونجرس.."FBI" يحقق في نية امرأة بيع كمبيوتر بيلوسي لروسيا

محمد بن لادن.. مقاول توسعة الحرمين