متلازمة داون.. امنحوهم الفرصة حتى يكونوا منتجين
يتشابه مصابو «متلازمة داون» في الشكل حتى يعتقد أحدنا أنهم أخوة لنفس الأم والأب، فقد ارتسمت على وجه هذا الفرد الجديد ملامح مختلفة عن بقية أسرته لتبقى شبيهة بالبصمة تُميزه عن غيره من فئات المجتمع، إلاّ أن جميع مُصابي متلازمة داون لهم ابتسامة عفوية تأسر القلوب من الوهلة الأولى، وهنا لابد أن نحبهم.
إلى وقت قريب لم نكن نراهم إلاّ نادراً لرغبة أهاليهم في عزلهم عن المجتمع، أمّا الآن ومع انفتاح المجتمع عبر وسائل التواصل الاجتماعي وارتفاع مستوى الوعي والتثقيف أصبحوا أكثر اختلاطًا واندماجاً مع أفراد المجتمع، وبالرغم من معاناة بعضهم من القصور العقلي إلاّ أن معدل تواصلهم الاجتماعي متقدم.
ولأن كل فرد له حق في التعليم والتدريب والعمل، فقد ساهمت بعض الجهات بدعم مصابي «متلازمة داون» بأن يكونوا أعضاء منتجين وفاعلين في المجتمع، فتم توظيف بعض أفراد هذه الشريحة في عدة مجالات مختلفة تتماشى مع طبيعة الحالة الصحية لهم، إلاّ أن هناك بعض الجهات التي تعزف وتمتنع من المساهمة في توظيف قدراتهم ودمجهم في المجتمع، وهنا يبرز السؤال: أليس الأولى أن نعاملهم كأُناس لهم حقوق ويجب أن يمارسوا حياتهم كالأشخاص الأسوياء ليحققوا الاستقلال بذواتهم ويندمجوا في المجتمع؟
تفاوت الفروقات
وقالت سوزان الغانم - الأمين العام للجمعية الخيرية لمتلازمة داون (دسكا) -: أفراد متلازمة داون لديهم احتياجات خاصة كأي فرد عادي طبيعي، لذا من حقهم أن تكون حياتهم جيدة، فلا يجب علينا أن نضع سقفاً لحدود قدراتهم وإمكاناتهم وعلى حسب ما نراه نحن، وليس بالضرورة أن يكون بين هؤلاء الأفراد المبدع والموهوب، فالإبداع شيء معناه أن الشخص أتقن مهارة ثم تميز فيها ثم ارتقى عن التميز ليصبح مُبدعاً، مضيفةً أن التوظيف يقوم على منهجيتين فقط ألا وهما منهجية فردية ومنهجية جماعية. والمنهجية التي تتبعها الجمعية مع أفراد مُصابي متلازمة داون منهجية فرديه علمية محددة ومبنية على مواءمة قدرات الفرد مع الإمكانات الموجودة في المجتمع، مبينةً أن كل العالم يُمارس المنهجية الفردية لهؤلاء الأفراد؛ أي بمعنى أن هذه المنهجية تقوم بتجهيز الفرد الذي يُعاني من القصور في الإمكانات العقلية إلى مهام عامة وأساسية حسب قدراته الوظيفية من ناحية التعليم والتدريب والتأهيل إلى أن يصل المرحلة التي تُناسب قدراته.
وأشارت إلى أن الفُروقات عند أفراد متلازمة داون عادةً تكون أكثر تفاوتاً من المعدل العادي، فنفرض أن أحد أطفال متلازمة داون استطاع أن يتهجى الأحرف ثم القراءة، وذلك حسب إمكاناته لنراه بعد فترة قد وصل إلى مراحل جيدة بل أصبح يتعلم مفردات جديدة، في حين نجد في المقابل أطفالاً أقل من مستوى أن يتهجى الأحرف ليصبح فيه تفاوت في الإمكانات، مؤكدةً على أن الغالبية العظمى - أكثر من (90 %)- من مُصابي متلازمة داون يستطيعون أن يصلوا إلى مرحلة جيدة من الاعتماد على النفس.
ذكاء اجتماعي
وأوضحت سوزان الغانم أنهم في الجمعية يعملون مع الفرد بالسرعة التي تُناسب قدرته، كما نُساعده في الأمور التي نراه ضعيفاً فيها، والتي يمكن أن تعيقه في الحياة، بينما ندعم الأمور التي يتميز فيها، مضيفةً أن هؤلاء الأفراد لديهم ذكاء اجتماعي عالٍ، حيث يستطيعون أن يقصوا القُصص ويخاطبوا ويتحاوروا مع الأشخاص الآخرين، بينما نجدهم في الذكاء الفكري والمجرد فهم لا يستطيعون أن يقوموا بعملية حسابية أو مهارة القراءة؛ لأن هذا الجانب يعتمد على سلامة الجهاز العصبي، لذا ليس من الضروري أن ذكاءه الاجتماعي مقياس ليُحدد مدى قدرته على الوظائف المُتاحة في سوق العمل اليوم، مبينةً أن الوظائف تنقسم الى جزئين: جزء يتطلب مهارة وقدرة جسدية متمثلة في الوظائف التي يتكيف فيها اجتماعياً كالعمل في الاستقبال أو مساعد في مكتبة ما أو العمل كاشيراً وغيرها من الأعمال البعيدة عن العمليات والمهام المعقدة، ذاكرةً أن الجزء الآخر يتطلب مهارة فكرية مثل المحاسبة فهي تستحيل على الشخص الذي لديه قصور في القدرات العقلية، حيث تتطلب سرعة وتعاملاً بالأرقام.
وأشارت إلى أن هناك بعض الأفراد وصلوا إلى مرحلة متطورة وخارج العادة، وهذا نادراً ما يحدث؛ لأن ذكاءه المجرد أي قدراته الذهنية تكون في حدودها الطبيعية، أمّا غير ذلك يعتمد على قدراته فلا نضع حدوداً لها، بل يجب أن نعطيه كُل الفرص الممكنة، فلا نحدهم بسقف ونقول هُنا أقصى ما يستطيع أن يقوم بعمله، لكن المتوقع لهذه الفئة أن المصاب يستطيع أن يكون في الحياة المعيشية مستقلاً معتمداً على نفسه سواء بإشراف جزئي أو من دون إشراف، فنجده يهتم بنفسه، يقوم بتحضير طعامه لنفسه، أيضاً يحافظ على جدوله أو وظيفته.
أول دفعة
وذكرت سوزان الغانم أن هذا العام سوف تُخرج دسكا أول دفعة من فتيات الجمعية للتوظيف، وذلك بعد تأهيلهم وتدريبهم على المهام المُكلفة لهن، بحيث لكل فتاة برنامج مختلف عن الأخرى من حيث المهام والمكان الذي سوف تعمل فيه وماذا تستطيع أن تفعل وهن ست بنات، مبينة أنه تم وضع برنامج لمدة عام كامل تم فيها تدريب الطاقم الموجود في المؤسسة حتى يتعلموا كيفية التعامل مع الفرد الجديد الذي انضم لهذه المؤسسة، كما تم تدريب مُصاب متلازمة داون على المهام التي سوف يقوم بعملها في المؤسسة، كاشفةً أن هناك عوائق ظهرت أمام توظيف أفراد «متلازمة داون» والتي بدأت في الظهور حينما قامت الجمعية بتجربة التوظيف لهؤلاء، وتتلخص في ثلاثة معطيات أولها محاربة التوظيف الوهمي بشكل جذري، فكثير من المؤسسات تقوم بتوظيف مُصابي متلازمة داون وهم بالمنزل وبراتب شهري دون أن يقوم بعمل أدنى مهمة، أمّا العائق الثاني فهو القوانين والأنظمة، وهنا يجب إعادة النظر في الأنظمة بحيث يكون فيها مرونة بما يتعلق بالإعانة التي تأتيهم من الشؤون الاجتماعية للذين لديهم احتياج خاص ورئيس يُعيقهم على أن يجدوا مصدر رزق كافياً، فبعض الأهالي يرفضون أن يتوظف ابنهم؛ وذلك لأن الإعانة التي تُصرف لهم تنقطع بمجرد أن يتوظف، لذا يقولون: «قليل دائم ولا كثير منقطع»!.
وأشارت إلى أنه يتمثل العائق الثالث فيما يخص التعاون ما بين الجمعية السعودية لمتلازمة داون -دسكا - والجمعيات الأخرى والمؤسسات غير الربحية لوضع نظام وطني شامل، موضحةً أنه تم عقد اتفاقية بين الجمعية وإحدى المدارس الخاصة بتدريب عدد من البنات وتأهيلهم للتوظيف، ويفترض أن يكون هناك تعاون ونماذج لهذا التعاون المشترك ما بين الجمعية والجهات الأخرى.
أسرة ومجتمع
وتحدث د. إبراهيم الثابت - أستاذ التربية الخاصة المشارك بجامعة الملك سعود - قائلاً: إن حقوق فئة متلازمة داون ليس في التوظيف فقط بل في كل متطلبات جودة الحياة، مضيفاً أن توظيف بعضهم مع التأكيد على عدم استخدام البعض، وذلك ليس بالضرورة تساويهم في القدرات أو أن جميعهم على مستوى عالٍ من المهارة، لكن ذلك يزرع ثغرة لتشتيت الثقة بمن لديه قدرة ومهارة وغالبيتهم بالتأكيد يمتلك ذلك إذا تلقى التعليم والتأهيل الملائم، مضيفاً أنه قد تكون مفردة بعض باباً للاعتقاد أن شخصاً ما لديه قدرات لكنه ليس من هؤلاء البعض، مبيناً أن الخطوة نحو توظيفهم هي الأساس، على أن يسبقها الإعداد الملائم، وهي خطوة لا تقتصر على صالحهم فحسب بل لمصلحة الأسرة والمجتمع اللذين يعيشون فيهما، ذاكراً أن هذه الفئة تحديداً لديها من الصفات ما يؤهلها لأن تقدم وتتولى عدداً غير قليل من المهام.
شفقة إيجابية
وأوضح د. الثابت أن التعامل معهم بالشفقة نابع من كون البشر بطبيعتهم يشفقون على من يعتقدون بضعفه، والبشر - أياً كانوا - ضعيفون بطبعهم، وذوو متلازمة داون تبدو عليهم بعض مظاهر مبررات الشفقة، لكن ليس لضعف قدرات أو عدم إمكانية أن يساهموا مثل غيرهم في العطاء والإيجابية في الحياة، بل غالباً أن ذلك نتيجة عدم أو محدودية تلقيهم القدر نفسه الذي يتلقاه غيرهم من الحقوق وفي طليعتها التعليم والرعاية والتأهيل بما يتوفق مع طبيعتهم، مضيفاً أن الشفقة الإيجابية يجب أن تكون موجهة نحو تقديم ما يجعلهم قادرين على استثمار قدراتهم ومهاراتهم، لا أن تكون شفقة تسهم في ضعفهم وتحد من إمكاناتهم بالاقتصار على خدمتهم، لافتاً إلى أن ردة الفعل الجافة وغير المتوقعة من الآخرين لمُصابي متلازمة داون تأتي غالباً بسبب محدودية معرفة الآخرين بهم، وبسبب أننا ساهمنا في الحد من قدراتهم التي تفرض احترامهم على الآخرين لقصور في التعليم والتأهيل والتوظيف الملائم لهم، وإبقائهم بمستوى قد يكون مثار سخرية من بعض البشر، مشيراً إلى أن هذه الجوانب تتحسن بشكل ملحوظ في المجتمع.
from جريدة الرياض >https://ift.tt/2PibTnB
via IFTTT
تعليقات
إرسال تعليق